منتــديـــــــات .... ضياء الـديــــن البــري .... للثقـــــــافة والأدب
اهلا وسهلا بكم .. نورتونا .. نسعد لتواجدكم .. وتواصلكم الدائم معنا ومن خلال منتداكم .. معا سيكون احلي منتدي ..
منتــديـــــــات .... ضياء الـديــــن البــري .... للثقـــــــافة والأدب
اهلا وسهلا بكم .. نورتونا .. نسعد لتواجدكم .. وتواصلكم الدائم معنا ومن خلال منتداكم .. معا سيكون احلي منتدي ..
منتــديـــــــات .... ضياء الـديــــن البــري .... للثقـــــــافة والأدب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتــديـــــــات .... ضياء الـديــــن البــري .... للثقـــــــافة والأدب

أدبــي ...... ثقــافي ...... إســلامي.......شعر العـاميــــة ..... كل ماينفـــع الناس
 
الرئيسية............كتاب بن القيم .....منقول ( 1 ) Emptyأحدث الصوردخولالتسجيل
السلام عليكم .. أهلا وسهلا ومرحبا بكم في منتداكم .. زيارتكم شرف لنا .. وتواجدكم بيننا مبتغانا .. الدعاء أعذب نهر جرى ماؤه بين المتحابين في الله ..... ولأنني في الله أحبكم .. أهديكم من عذوبته .. بارك الله لك في عمرك وأيامك .. نرحب بمن يتواجد معنا للإشراف علي أقسام المنتدي .. نسعي وإياكم لما يرضي الله وينفع الناس ..
دخول
اسم العضو:
كلمة السر:
ادخلني بشكل آلي عند زيارتي مرة اخرى: 
:: لقد نسيت كلمة السر

 

 ............كتاب بن القيم .....منقول ( 1 )

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
admin
Admin



عدد المساهمات : 1587
تاريخ التسجيل : 09/09/2009
الموقع : https://elmastor99.ahlamontada.com/admin/index.forum?part=users_groups&sub=users&mode=edit&u=1&extended_admin=1&sid=c1629deafff60446a84e167c5d6aaa07

............كتاب بن القيم .....منقول ( 1 ) Empty
مُساهمةموضوع: ............كتاب بن القيم .....منقول ( 1 )   ............كتاب بن القيم .....منقول ( 1 ) Icon_minitimeالثلاثاء أكتوبر 20, 2009 1:35 pm



هداية الحيارى
في
أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم الجوزية

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام ديناً، ونصب لنا الدلالة على صحته برهاناً مبيناً، وأوضح السبيل إلى معرفته واعتقاده حقاً يقيناً، ووعد من قام بأحكامه وحفظ حدوده أجراً جسيماً، وذخر لمن وافاه به ثواباً جزيلاً وفوزاً عظيماً، وفرض علينا الانقياد له ولأحكامه، والتمسك بدعائمه وأركانه، والاعتصام بعراه وأسبابه.
فهو دينه الذي ارتضاه لنفسه ولأنبيائه ورسله وملائكة قدسه، فبه اهتدى المهتدون وإليه دعا الأنبياء والمرسلون.
أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ، فلا يقبل من أحد ديناً سواه من الأولين والآخرين ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين .
شهد بأنه دينه قبل شهادة الأنام ، وأشاد به ورفع ذكره وسمى به أهله وما اشتملت عليه الأرحام، فقال تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم * إن الدين عند الله الإسلام .
وجعل أهله هم الشهداء على الناس يوم يقوم الأشهاد، لما فضلهم به من الإصابة في القول والعمل والهدى والنية والاعتقاد، غذ كانوا أحق بذلك وأهله في سابق التقدير ، فقال وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير .
وحكم سبحانه بأنه أحسن الأديان، ولا أحسن من حكمه ولا أصدق منه قبلا فقال: ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا .

الأديان قبل البعثة
وكيف لا يميز من له أدنى عقل يرجع إليه بين دين قام أساسه وارتفع بناؤه على عبادة الرحمن، والعمل بما يحبه ويرضاه مع الإخلاص في السر والإعلان، ومعاملة خلقه بما أمر به من العدل والإحسان، مع إيثار طاعته على طاعة الشيطان، وبين دين أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار بصاحبه في النار.
أسس على عبادة النيران، وعقد الشركة بين الرحمن والشيطان، وبينه وبين الأوثان.
أو دين أسس بنيانه على عبادة الصلبان والصور المدهونة في السقوف والحيطان، وأن رب العالمين نزل عن كرسي عظمته فالتحم ببطن أنثى وأقام هناك مدة من الزمان، بين دم الطمث في ظلمات الأحشاء تحت ملتقى الأعكان، ثم خرج صبياً رضيعً يشب شيئاً فشيئاً ويبكي وأكل ويشرب ويبول وينام ويتقلب مع الصبيان، ثم أودع في المكتب بين صبيان اليهود يتعلم ما ينبغي للإنسان هذا وقد قطعت منه القلفة حين الختان، ثم جعل اليهود يطردونه ويشردونه من مكان إلى مكان، ثم قبضوا عليه وأحلوه أصناف الذل والهوان، فعقدوا على رأسه من الشوك تاجاً من أقبح التيجان، وأركبوه قصبة ليس لها لجام ولا عنان، ثم ساقوه إلى خشبة الصلب مصفوعاً مبصوقاً على وجهه وهم خلفه وأمامه وعن شمائله وعن الأيمان.
ثم أركبوه ذلك المركب الذي تقشعر من القلوب مع الأبدان، ثم شدت بالحبال يداه ومع الرجلان، ثم خالطهما تلك المسامي التي تكسر العظام وتمزق اللحمان وهو يستغيث: يا قوم ارحموني! فلا يرحمه منه إنسان هذا وهو مدير العالم العلوي والسفلي الذي يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن ثم مات ودفن في التراب تحت صم الجنادل والصوان ، ثم قام من القبر وصعد إلى عرشه وملكه بعد أن كان ما كان فما ظنك بفروع هذا أصلها الذي قام عليه البنيان.
أو دين أسس بنيانه على عبادة الآل المنحوت بالأيدي بعد نحت الأفكار من سائر أجناس الأرض على اختلاف الأنواع والأصناف والألوان، والخضوع له والتذلل والخرور سجوداً الى الأذقان، لا يؤمن من يدين به بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا لقائه يوم يجزى المسي بإساءته والمحسن بالإحسان.
أو دين الأمة الغضبية الذين انسلخوا من رضوان الله كانسلاخ الحية من قشرها، وباؤا بالغضب والخزي والهوان، وفارقوا أحكام التوراة ونبذوها وراء ظهورهم واشتروا بها القليل من الأثمان، فترحل عنهم التوفيق وقارنهم الخذلان واستبدلوا بولاية الله وملائكته ورسله وأوليائه ولاية الشيطان؟ أو دين أسس بنيانه على أن رب العالمين وجود مطلق في الأذهان، لا حقيقة له في العيان، ليس بداخل في العلم ولا خارج عنه، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا محايث ولا مباين له ، لا يسمع، ولا يرى، ولا يعلم شيئا من الموجودات ولا يفعل ما يشاء، لا حياة له، ولا قدرة، ولا إرادة، ولا اختيار، ولم يخلق السموات والأرض في ستة أيام بل لم تزل السموات والأرض معه وجودها مقارن لوجوده، لم يحدثها بعد عدمها ولا له قدرة على إفنائها بعد وجودها، ما أنزل على بشر كتاباً، ولا أرسل إلى الناس رسولاً، فلا شرع يتبع، ولا رسول يطاع، ولا دار بعد هذه الدار، ولا مبدأ للعالم ولا معاد، ولا بعث ولا نشور، ولا جنة ولا نار، إن هي إلا تسعة أفلاك وعشرة عقول، وأربعة أركان وأفلاك تدور، ونجوم تسير، وأرحام تدفع، وأرض تبلغ وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ؟.
وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ضد له ولا ند له، ولا صاحبة له ولا ولد له، ولا كفؤ له، تعالى عن إفك المبطلين، وخرص الكاذبين، وتقدس عن شرك المشركين، وأباطيل الملحدين.
كذب العادلون به سواه وضلوا ضلالاً بعيداً.
وخسروا خسراناً مبيناً ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون * عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفوته من خلقه وخيرته من بريته.
وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده: ابتعثه بخير ملة وأحسن شرعة.
وأظهر دلالة وأوضح حجة، وأبين برهان إلى جميع العالمين نسهم وجنهم عربهم وعجمهم حاضرهم وباديهم، الذي بشرت به الكتب السالفة، وأخبرت به الرسل الماضية، وجرى ذكره في الأقصار في القرى والأمصار والأمم الخالية، ضربت لنبوته البشائر من عهد آدم أبي البشر، إلى عهد المسيح أبن البشر، كلما قام رسول أخذ عليه الميثاق بالإيمان به والبشارة بنبوته حتى انتهت النبوة إلى كليم الرحمن، موسى بن عمران فأذن بنبوته على رؤوس الإشهاد بين بني إسرائيل معلنا بالأذان جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران .
إلى أن ظهر المسيح ابن مريم عبد الله ورسوله وروحه وكلمته التي ألقاها إلى مريم فأذن بنبوته آذاناً لم يؤذنه أحد مثله قبله، فقام في بني إسرائيل مقام الصادق الناصح وكانوا لا يحبون الناصحين فقال: إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد، فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين .
تالله لقد أذن المسيح آذاناً أسمعه البادي والحاضر، فأجابه المؤمن المصدق وقامت حجة الله على الجاحد الكافر.
الله أكبر، الله أكبر عما يقول فه المبطلون ويصفه به الكاذبون، وينسبه إليه المفترون والجاحدون، ثم قال : أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند له ولا كفؤ له، ولا صاحبة له ولا ولد له، بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ثم رفع صوته بالشهادة لأخيه وأولى الناس به بأنه عبد الله ورسوله، وانه أركون العالم، وانه روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه إنما يقول ما يقال له وانه يخبر الناس بكل ما اعد الله لهم ، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالغيوب ويجيئهم بالتأويل، ويوبخ العالم على الخطيئة، ويخلصهم من يد الشيطان، وتستمر شريعته وسلطانه إلى آخر الدهر وصرح في آذانه باسمه ونعته وصفته وسيرته حتى كأنهم ينظرون إليه عياناً، ثم قال حي على الصلاة خلف إمام المرسلين وسيد ولد آدم أجمعين، حي على الفرح بإتباع من السادة في إتباعه، والفلاح في الدخول في زمرة أشياعه، فأذن وأقام وتولى وقال: لست ادعكم كالأيتام، وسأعود واصلي وراء هذا الإمام، هذا عهدي إليكم إن حفظتموه دام لكم الملك إلى آخر الأيام.
فصلى الله عليه من ناصح بشر برسالة أخيه عليهما افضل الصلاة والسلام، وصدق به أخوه ونزهه عما قال فيه وفي أمه أعداؤه المغضوب عليهم من الإفك والباطل وزور الكلام، كما نزه ربه وخالقه ومرسله عما قال فيه المثلثة عباد الصليب، ونسبوه إليه من النقص والعيب والذم.
(أما بعد) فإن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه وتبارك اسمه وتعالى جده ولا اله غيره جعل الإسلام عصمة لمن لجا إليه، وجنة لمن استمسك به وعض بالنواجذ عليه، فهو حرمه الذي من دخله كان من الآمنين، وحصنه الذي من لجأ إليه كان من الفائزين، ومن انقطع دونه كان من الهالكين.
وأبى أن يقبل من أحد ديناً سواه، ولو بذل في المسير إليه جهده واستفرغ قواه، فأظهره على الدين كله حتى طبق مشارق الأرض ومغاربها، وسار مسير الشمس في الأقطار.
وبلغ إلى حيث انتهى الليل والنهار، وعلت الدعوة الإسلامية وارتفعت غاية الارتفاع والاعتلاء.
بحيث صار أصلها ثابت وفرعها في السماء فتضاءلت لها جميع الأديان، وجرت تحتها الأمم منقادة بالخضوع والذل والإذعان، ونادى المنادي بشعارها في جو السماء بين الخافقين: اشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله صارخاً بالشهادتين، حتى بطلت دعوة الشيطان، وتلاشت عبادة الأوثان، واضمحلت عبادة النيران، وذل المثلثة عباد الصلبان، وتقطعت الأمة الغضبية في الأرض كتقطع السراب في القيعان، وصارت كلمة الإسلام العليا، وصار له في قلوب الخلائق المثل الأعلى، وقامت براهينه وحججه على سائر الأمم في الآخرة والأولى، وبلغت منزلته في العلى والرفعة الغاية القصوى، وأقام لدولته ومصطفيه أعوانا وأنصارا نشروا ألويته وأعلامه، وحفظوا من التغيير والتبديل حدوده وأحكامه، وبلغوا إلى نظرائهم كما بلغ إليهم من قبلهم، حلاله وحرامه، فعظموا شعائره، وعلموا شرائعه، وجاهدوا أعداءه بالحجة والبيان حتى استغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ، وعلا بنيانه المؤسس على تقوى من الله ورضوان، إذ كان يناء غيره مؤسساً على شفا جرف هار.
فتبارك الذي رفع منزلته، وأعلى كلمته، وفخم شانه، وأشاد بنيانه، وأذل مخالفيه ومعانديه، وكبت من يبغضه ويعاديه، ووسمهم بانهم شر الدواب، واعد لهم إذا قدموا عليه اليم العقاب، وحكم لهم بانهم اضل سبيلا من الانعام، اذ استبدلوا الشرك بالتوحيد، والضلال بالهدى، والكفر بالاسلام، وحكم سبحان لعلماء الكفر وعباده حكماً يشهد ذوو العقول بصحته ويرونه شيئاً حسناً، فقال تعالى قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا * ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا .
فأين يذهب من تولى عن توحيد ربه وطاعته، ولم يرفع رأساً بأمره ودعوته، وكذب رسوله واعرض عن متابعته، وحاد عن شريعته، ورغب عن ملته واتبع غير سنته، ولم يستمسك بعهده، ومكن الجهل من نفسه، والهوى والعناد من قلبه، والجحود والكفر من صدره ، والعصيان والمخالفة من جوارحه؟ فقد قابل خبر الله بالتكذيب، وأمره بالعصيان، ونهيه بالارتكاب، يغضب الرب وهو راض، ويرضي وهو غضبان، يحب ما يبغض ، ويبغض ما يحب، ويوالي من يعاديه ، ويعادي من يواليه، يدعو إلى خلاف ما يرضى، وينهى عبداً إذا صلى قد اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم فاصمه وابكمه واعماه، فهو ميت الدارين، فاقد السعادتين، قد رضى بخزي الدنيا وعذاب الآخرة، وباع التجارة الرابحة بالصفقة الخاسرة، فقلبه عن ربه مصدود، وسبيل الوصول الى جنته ورضاه وقربه عنه مسدود، فهو ولي الشيطان وعدو الرحمن، وحليف الكفر والفسوق والعصيان .
قد رضي المسلمون بالله رباً وبالاسلام ديناً وبمحمد رسولاً، ورضي المخذول بالصليب والوثن الهاً، وبالتثليث والكفر ديناً ، وبسبيل الضلال والغضب سبيلاً، اعصى الناس للخالق الذي لا سعادة له الا في طاعته، واطوعهم للمخلوق الذي ذهاب دنياه وأخراه في طاعته ، فاذا سئل في قبره من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ قال: هاه ، هاه لا ادري.
فيقال: لا دريت، ولا تليت، وعلى ذلك حييت ، وعليه مت، وعليه تبعث ان شاء الله، ثم يضرم عليه قبره ناراً، ويضيق عليه كالزج في الرمح الى قيام الساعة .
واذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، وقام الناس لرب العالمين، ونادى المنادي وامتازوا اليوم أيها المجرمون ثم رفع لكل عابد معبوده الذي كان يعبده ويهواه، وقال الرب تعالى وقد أنصت له الخلائق : اليس عدلاً مني ان اولى كل انسان منكم ما كان في الدنيا يتولاه؟ فهناك يعلم المشرك حقيقة ما كان عليه، ويتبين له سوء منقلبه وما صار اليه، ويعلم الكفار انهم لم يكونوا اولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ، وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون .
ولما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم كان أهل الارض صنفين: اهل الكتاب، وزنادقة لا كتاب لهم.
وكان اهل الكتاب افضل الصنفين، وهم نوعان: مغضوب عليم ، وضالون.
فالامة الغضبية هم اليهود: اهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل، قتلة الانبياء واكلة السحت – وهو الربا والرشا – اخبث الامم طوية، وأرداهم سجية وابعدهم من الرحمة، واقربهم من النقمة، عادتهم البغضاء، وديدنهم العداوة والشحناء، بيت السحر والكذب والحيل، لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم من الانبياء حرمة، ولا يرقبون في مؤمن الا ولا ذمة، ولا لمن وافقهم عندهم حق ولا شفقة، ولا لمن شاركهم عندهم عدل ولا نصفة، ولا لمن خلطهم طمأنينة ولا أمنة، ولا لمن استعملهم عندهم نصيحة، بل أخبثهم بيهودي على الحقيقة، أضيق الخلق صدوراً، واظلمهم بيوتاً وأنتنهم أفنية، واوحشهم سجية، تحيتهم لعنة ، ولقاؤهم طيرة، شعارهم الغضب، ودثارهم المقت.
والصنف الثاني: المثلثة أمة الضلال وعباد الصليب، الذين سبوا الله الخالق مسبة ما سبه اياها احد من البشر ، ولم يقروا بانه الواحد الاحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً احد، ولم يجعلوه اكبر من كل شئ، بل قالوا فيه ما تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ، فقل ما شئت في طائفة اصل عقيدتها: إن الله ثالث ثلاثة وان مريم صاحبته وان المسيح ابنه، وانه نزل عن كرسي عظمته والتحم ببطن الصاحبة، وجرى له ما جرى الى ان قتل ومات ودفن.
فدينها عبادة الصلبان، ودعاء الصور المنقوشة بالاحمر والاصفر في الحيطان، يقولون في دعائهم: (يا والدة الإله ارزقينا، واغفري لنا وارحمينا).
فدينهم شرب الخمور واكل الخنزير، وترك الختان، والتعبد بالنجاسات، واستباحة كل خبيث من الفيل الى البعوضة، والحلال ما حلله القس، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، وهو الذي يغفر لهم الذنوب، وينجيهم من عذاب السعير.
فهذا حال من له كتاب، واما من لا كتاب له: فهو بين عابد أوثان ، وعابد نيران، وعابد شيطان، وصابئ حيران ، يجمعهم الشرك، وتكذيب الرسل، وتعطيل الشرائع، وانكار المعاد وحشر الاجساد، لا يدينون للخالق بدين، ولا يعبدونه مع العابدين، ولا يوحدونه مع الموحدين.
فأمة المجوس منهم تستفرش الامهات والبنات والاخوات، دع العمات والخالات، دينهم الزمر، وطعامهم الميتة، وشرابهم الخمر، ومعبودهم النار، ووليهم الشيطان، فهم أخبث بني آدم نحلة، وأرداهم مذهباً، وأسوأهم اعتقاداً.
وأمة زنادقة الصابئة وملاحدة الفلاسفة لا يؤمنون بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ول لقائه، ولا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، وليس للعالم عندهم رب فعال بالاختيار لما يريد قادر على كل شيء عالم بكل شئ، آمر، ناه، مرسل الرسل، ومنزل الكتب، ومثيب المحسن ، ومعاقب المسيء، وليس عند نظارهم إلا تسعة أفلاك وعشرة عقول وأربعة أركان، وسلسلة ترتبت فيها الموجودات هي بسلسلة المجانين أشبه منها بمجوزات العقول.
(وبالجملة) فدين الحنفية – الذي لا دين لله غيره بين هذه الاديان الباطلة – التي لا دين في الارض غيرها – أخفى من السها تحت السحاب، وقد نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم الا بقايا من اهل الكتاب فاطلع الله شمس الرسالة في حنادس تلك الظلم سراجاً منيراً، وانعم بها على اهل الارض نعمة لا يستطيعون لها شكورا، واشرقت الارض بنورها اكمل الاشراق، وفاض ذلك النور حتى دعم النواحي والافاق، واتسق قمر الهدى اتم الاتساق، وقام دين الله الحنيف على ساق.
فلله الحمد الذي انقذنا بمحمد صلى الله عليه وسلم من تلك الظلمات، وفتح لنا به باب الهدى فلا يغلق الى يوم الميقات، وارانا في نوره اهل الضلال وهم في ضلالهم يتخبطون، وفي سكرتهم يعمهون، وفي جهالتهم يتقلبون، وفي ريبهم يترددون، يؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت يؤمنون، ويعدلون ولكن بربهم يعدلون، ويعملون ولكن ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة غافلون، ويسجدون ولكن للصليب والوثن والشمس يسجدون ويمكرون وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون * فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون الحمد لله الذي أغنانا بشريعته التي تدعو إلى الحكمة والموعظة الحسنة، وتتضمن الأمر بالعدل والاحسان، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ، فله المنة والفضل على ما انعم به علينا وارهنا به على سائلا الامم واليه الرغبة ان يورعنا شكر هذه النعمة ، وان يفتح لنا ابواب التوبة والمغفرة والرحمة، فاحب الوسائل الى المحسن التوسل اليه باحسانه والاعتراف له بان الامر كله محض فضله وامتنانه، فله علينا النعمة السابغة كما له علينا الحجة البالغة.
نبوء له بنعمه علينا، ونبوء بذنوبنا وخطايانا وجهلنا وظلمنا وإسرافنا في امرنا، فهذه بضاعتنا التي لدينا، لم تبق لنا نعمه وحقوقها وذنوبنا حسنة نرجو بها الفوز بالثواب والتخلص من اليم العقاب، بل بعض ذل يستنفد جميع حسناتنا، ويستوعب كل طاعتنا هذا لو خلصت من الشوائب، وكانت خالصة لوجهه واقعة على وفق امره، وما هو والله الا التعلق بأذيال عفوه وحسن الظن به، واللجأ منه إليه والاستعاذة به منه والاستكانة والتذلل بين يديه، ومد يد الفاقة والمسكنة اليه، بالسؤال والافتقار اليه في جميع الاحوال ، فمن اصابته نفحة من نفحات رحمته أو وقعت عليه نظرة من نظرات رأفته انتعش من بين الأموات وأناخت بفنائه وفود الخيرات، وترحلت عنه جيوش الهموم والغموم والحسرات….
واذا نظرت إلي نظرة راحم        في الدهر يوما انني لسعيد
ومن بعض حقوق الله على عبده رد الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه ومجاهدتهم بالحجة والبيان، والسيف والسنان، والقلب والجنان، وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان.
أسباب تصنيف هذا الكتاب
وكان انتهى إلينا مائل أوردها بعض الكفار الملحدين على بعض المسلمين فلم يصادف عنده ما يشفيه ، ولا وقع دواؤه على الداء الذي فيه، وظن المسلم انه باجابته القاصة اصاب، فقال : هذا هو الجواب! فقال الكافر: صدق أصحابنا في قولهم: ان دين الاسلام انما قام بالسيف لا بالكتاب.
فتفرقا وهذا ضارب وهذا مضروب، وضاعت لحجة بين الطالب والمطلوب، فشمر المجيب عن ساعد العزم، ونهض على ساق الجد وقام لله قيام مستعين به مفوض إليه متكل عليه في موافقة مرضاته، ولم يقل مقالة العجزة الجهال: إن الكفار إنما يعاملون بالجلاد دون الجدال، وهذا فرار من الزحف، وإخلاد إلى العجز والضعف.
وقد أمر الله بمجادلة الكفار بعد دعوتهم إقامة للحجة وإزاحة للعذر ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة .
والسيف إنما جاء منفذا للحجة مقوما للمعاند، وحدا للجاحد، قال تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز .
فدين الإسلام قام بالكتاب الهادي ونفذه السيف.
فما هو الا الوحي او حد مرهف     يقيم ضباه اخدعي كل مائل
فهذا شفاء الداء من كل عاقل     وهذا دواء الداء من كل جاهل
وإلى الله الرغبة في التوفيق، فانه الفاتح من الخير أبوابه والميسر له أسبابه.
وسميته هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى.
وقسمته قسمين:
القسم الاول في اجوبة المسائل، والقسم الثاني في تقرير نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- بجميع أنواع الدلائل، فجاء بحمد الله ومنه وتوفيقه كتاباً ممتعاً معجباً، لا يسأم قاريه ولا يمل الناظر فيه، فهو كتاب يصلح للدنيا والآخرة، ولزيادة الايمان ، ولذة الانسان.
يعطيك ما شئت من أعلام النبوة وبراهين الرسالة، وبشارات الانبياء بخاتمهم، واستخراج اسمه الصرح من كتبهم، وذكر نعته وصفته وسيرته من كتبهم، والتمييز بين صحيح الاديان وفاسدها وكيفية فسادها بعد استقامتها، وجملة من فضائح أهل الكتابين وما هم عليه، وانهم اعظم الناس براءة من انبيائهم، وان نصوص انبيائهم تشهد بكفرهم وضلالهم، وغير ذلك من نكت بديعة لا توجد في سواه.
والله المستعان وعليه التكلان، فهو حسبنا ونعم الوكيل.
[b]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elmastor99.ahlamontada.com
admin
Admin



عدد المساهمات : 1587
تاريخ التسجيل : 09/09/2009
الموقع : https://elmastor99.ahlamontada.com/admin/index.forum?part=users_groups&sub=users&mode=edit&u=1&extended_admin=1&sid=c1629deafff60446a84e167c5d6aaa07

............كتاب بن القيم .....منقول ( 1 ) Empty
مُساهمةموضوع: .......... كتاب .. هداية الحياري لإبن القيم .... ( 2 ) منقول   ............كتاب بن القيم .....منقول ( 1 ) Icon_minitimeالثلاثاء أكتوبر 20, 2009 1:38 pm


القسم الاول في أجوبة المسائل وعددها سبعة أسئلة
فنقول اما المسألة الاولى وهي: قول السائل قد اشتهر عندكم بان اهل الكتابين ما منعهم من الدخول في الاسلام الا الرياسة والمأكلة – لا غير.
(فنقول : هذا) كلام جاهل بما عند المسلمين وبما عند الكفار، اما المسلمون فلم يقولوا انه لم يمنع اهل الكتاب من الدخول في الاسلام الا الرياسة والماكلة لا غير، وان قال هذا بعض عوامهم فلا يلزم جماعتهم،والممتنعون من الدخول في الاسلام من اهل الكتاب وغيرهم جزء يسير جداً بالاضافة الى الداخلين فيه منهم، بل اكثر الامم دخلوا في الاسلام طوعاً ورغبةً واختياراً لا كرهاً ولا اضطراراً ، فان الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً الى اهل الارض وهم خمسة أصناف قد طبقوا الارض: يهود ، ونصارى، ومجوس، وصابئة، ومشركون.
وهذه الاصناف هي التي كانت قد استولت على الدنيا من مشارقها الى مغاربها.
فأما اليهود فاكثر ما كانوا باليمن وخيبر والمدينة وما حولها، وكانوا باطراف الشام مستذلين مع النصارى، وكان منهم بارض فارس فرقة مستذلة مع المجوس، كان منهم بارض العرب فرقة، واعز ما كانوا بالمدينة وخيبر ، وكان الله سبحانه قد قطعهم في الأرض أمماً وسلبهم الملك والعز.

وأما النصارى فكانوا طبق الارض: فكانت الشام كلها نصارى، وارض المغرب كان الغالب عليهم النصارى، وكذلك ارض مصر والحبشة والنوبة والجزيرة والموصل وارض نجران وغيرها من البلاد.
واما المجوس فهم اهل مملكة فارس وما اتصل بها.
وأما الصابئة فاهل حران وكثير من بلاد الروم.
واما المشركون فجزيرة العرب جميعها وبلاد الهند وبلاد الترك وما جاورها، وأديان اهل الارض لا تخرج عن هذه الاديان الخمسة، ودين الحنفاء لا يعرف فيهم البتة.
وهذه الاديان الخمسة لها للشيطان كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: الأديان ستة واحد للرحمن وخمسة للشيطان .
وهذه الاديان الستة مذكورة في آية الفصل في قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد .
فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم استجاب له ولخلفائه بعده اكثر اهل الاديان طوعاً واختياراً، ولم يكره احداً قط على الدين، وانما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله، واما من سالمه وهادنه فلم يقاتله ولم يكرهه على الدخول في دينه امتثالاً لامر ربه سبحانه حيث يقول: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي وهذا نفي في معنى النهي، أي لا تكرهوا احداً على الدين، نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان لهم أولاد قد تهودوا وتنصروا قبل الاسلام فلما جاء الاسلام أسلم الآباء وأرادوا إكراه الأولاد على الدين، فنهاهم الله سبحانه عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختارون الدخول في الإسلام.
والصحيح أن الآية على عمومها في حق كل كافر، وهذا ظاهر على قول من يجوز اخذ الجزية من جميع الكفار، فلا يكرهون على الدخول في الدين، بل اما ان يدخلوا في الدين واما ان يعطوا الجزية كما يقوله اهل العراق وأهل المدينة، وان استثنى هؤلاء بعض عبدة الأوثان.

ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تبين له انه لم يكره أحداً على دينه قط وانه انما قاتل من قاتله واما من هادنه فلم يقاتله مادام مقيما على هدنته لم ينقض عهد، بل امره الله تعالى ان يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له كما قال تعالى: فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم .
ولما قدم المدينة صالح اليهود واقرهم على دينهم ، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدؤوه بالقتال قاتلهم، فمن على بعضهم، وأجلى بعضهم، وقبل بعضهم.
وكذلك لما هادن قريشا عشر سنين لم يبدأهم بقتال حتى بدأوا هم بقتاله ونقضوا عهده، فعند ذلك غزاهم في ديارهم، وكانوا هم يغزونه قبل ذلك كما قصدوه يوم أحد ويوم الخندق، ويوم بدر ايضاً هم جاءوا لقتاله ولو انصرفوا عنه لم يقاتلهم.
والمقصود: انه صلى الله عليه وسلم لم يكره احداً على الدخول في دينه البتة، وانما دخل الناس في دينه اختياراً وطوعاً فاكثر اهل الارض دخلوا في دعوته لما تبين لهم الهدى وانه رسول الله حقاً فهؤلاء اهل اليمن كانوا لى دين اليهودية أو اكثرهم كما قال النبي لمعاذ لما بعثه الى اليمن: انك ستأتي قوما أهل كتاب فليكن اول ما تدعوهم اليه شهادة ان لا اله الا الله .
ثم دخلوا في الاسلام من غير رغبة ولا رهبة، وكذلك من اسلم من يهود المدينة وهم جماعة كثيرون غير عبد الله بن سلام مذكورون في كتب السير والمغازي لم يسلموا رغبة في الدنيا ولا رهبة من السيف بل اسلموا في حال حاجة المسلمين وكثرة اعدائهم ومحاربة اهل الارض لهم من غير سوط ولا نوط، بل تحملوا معاداة اقربائهم وحرمانهم نفعهم بالمال والبدن مع ضعف شوكة المسلمين وقلة ذات ايديهم.
فكان احدهم يعادي اباه وأمه وأهل بيته وعشيرته، ويخرج من الدنيا رغبة في الاسلام لا لرياسة ولا مال، بل ينخلع من الرياسة والمال ويتحمل أذى الكفار من ضربهم وشتمهم وصنوف أذاهم ولا يصرفه ذلك عن دينه فان كان كثير من الأحبار والرهبان والقسيسين ومن ذكره هذا السائل قد اختاروا الكفر فقد اسلم جمهور اهل الارض من فرق الكفار ولم يبق الا الاقل بالنسبة الى من اسلم، فهؤلاء نصارى الشام كانوا ملئ الشام ثم صاروا مسلمين الا النادر، فصاروا في المسلمين كالشعرة السوداء في الثور الابيض وكذلك المجوس كانت امة لا يحصى عددهم الا الله فاطبقوا على الاسلام لم يتخلف منهم الا النادر ، وصارت بلادهم بلاد اسلام، وصار من لم يسلم منهم تحت الجزية والذلة ، وكذلك اليهود اسم اكثرهم ولم يبق منهم الا شرذمة قليلة مقطعة في البلاد.
فقول هذا الجاهل: :ان هاتين الامتين لا يحصى عددهم الا الله كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم كذب ظاهر وبهت مبين، حتى لو كانوا كلهم قد اجمعوا على اختيار الكفر لكانوا في ذلك أسوة بقوم نوح، وقج اقام فيهم الف سنة الا خمسين عاماً يدعوهم الى الله يريهم من الآيات ما يقيم حجة الله عليهم وقد اطبقوا على الكفر الا قليلاً منهم كما قال تعالى: وما آمن معه إلا قليل وهم كانوا اضعاف اضعاف هاتين الامتين الكافرتين اهل الغضب واهل الضلال.
وعاد اطبقوا على الكفر وهم امة عظيمة عقلاء حتى استؤصلوا بالعذاب، وثمود اطبقوا جميعهم على الكفر بعد رؤية الآية العظيمة التي يؤمن على مثلها البشر، ومع هذا فاختاروا الكفر على الايمان، كما قال تعالى: وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى وقال تعالى: وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين فهاتان امتان عظيمتان من اكبر الامم قد اطبقتا على الكفر مع البصيرة، فامتى الغضب والضلال إذ اطبقتا على الكفر فليس ذلك ببدع، وهؤلاء قوم فرعون مع كثرتهم قد اطبقوا على جحد نبوة موسى مع تظاهر الايات الباهرة آية بعد آية فلم يؤمن منهم الا رجل واحد كان يكتم ايمانه.
وأيضا، يقال لنصارى: هؤلاء اليهود مع كثرتهم في زمن المسيح حتى كانوا ملا بلاد الشام كما قال تعالى: وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وكانوا قد اطبقوا على تكذيب المسيح وجحدوا نبوته، وفيهم الاحبار والعباد والعلماء حتى آمن به الحواريون، فاذا جاز على اليهود وفيهم الاحبار والعباد والزهاد وغيرهم الاطباق على جحد نبوة المسيح والكفر به مع ظهور ايات صدقه كالشمس جاز عليهم انكارة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومعلوم ان جواز ذلك على امة الضلال الذين هم اضل من الانعام، وهم النصارى أولى وأحرى.
فهذا السؤال الذي اورده هذا السائل وراد بعينه في حق كل نبي كذبته امة من الامم، فان صوب هذا السائل راي تلك الامم كلها، فقد كفر بجميع الرسل.
وان قال ان الانبياء كانوا على الحق، وكانت تلك الامم مع كثرتها ووفور عقولها على الباطل، فلان يكون المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم الاقلون الاذلون الارذلون، من هذه الطوائف على الباطل وأولى وأحرى ، وأي أمة من الأمم اعتبرتها، وجدت المصدقين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم جمهورها، واقلها واراذلها هم الجاحدون لنبوته، فرقعة الإسلام قد اتسعت في مشارق الأرض ومغاربها آية الاتساع بدخول هذه الأمم في دينه وتصديقهم برسالته ، وبقي من لم يدخل منهم في دينه وهم من كل أمة اقلها ، وأين يقع النصارى المكذبون برسالته اليوم من أمة النصرانية الذين كانوا قبله؟ ! وكذلك اليهود والمجوس والصابئة لا نسبة للمكذبين برسالته بعد بعثه إلى جملة تلك الأمة قبل بعثه.
وقد اخبر تعالى عن الأمم التي أطبقت على تكذيب الرسل ودمرها الله تعالى ، فقال تعالى: ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون ، فاخبر عن هؤلاء الامم انهم تطابقوا على تكذيب رسلهم وانه عمهم بالإهلاك، وقال تعالى: كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون ومعلوم قطعاً ان الله تعالى لم يهلك هذه الامم الكثيرة الا بعد ا تبين لهم الهدى فاختاروا عليه الكفر، ولو لم يتبين لهم الهدى لم يهلكهم، كما قال تعالى: وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ، وقال تعالى: فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ، أي فلم يكن قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس.
ومعلوم قطعا انه لم يصدق نبي من الانبياء من اولهم الا آخرهم ولم يتبعه من الامم ما صدق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، والذي اتبعوه من الامم اضعاف هاتين الامتين المكذبتين مما لا يحصيهم الا الله ولا يستريب من له مسكة من عقل ان الضلال والجهل والغي وفساد العقل الى من خالفه وجحد نبوته اقرب منه الى اتباعه ومن اقر بنبوته.
وحينئذ فيقال: كيف جاز على هؤلاء الامم التي لا يحصيهم الا الله الذي قد بلغوا مشارق الارض ومغاربها علىاختلاف طبائعهم واغراضهم وتباين مقاصدهم الطباق على اتباع من يكذب على الله وعلى رسله وعلى العقل ويحل ما حرم الله ورسله ويحرم ما أحله الله ورسله، ومعلوم ان الكاذب على الله ف دعوى الرسالة هو شر خلق الله وافجرهم واظلمهم واكذبهم.
ولا يشك من له ادنى عقل ان اطباق اكثر الامم على متابقة هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم وخروجهم عن ديارهم واموالهم ومعاداتهم اباءهم وعشائرهم في متابعته وبذلهم نفوسهم بين يديه من امحل المحال؟ فتجويز اختيارهم الكفر بعد تبين الهدى على شرذمة قليلة حقية لها اغراض عديدة من هاتين الامتين اولى من تجويز ذلك على المسلمين الذين طبقوا مشارق الارض ومغاربها ، وهم اعقل الامم واكملها في جميع خصال الفضل.
اين عقول عباد العجل وعباد الصليب الذي اضحكوا سائر العقلاء على عقولهم ودلوهم على مبلغها بما قالوه في معبودهم من عقول المسلمين؟ واذا جاز اتفاق امة – فيها من قد ذكره هذا السائل – على ان رب العلامين وخالق السموات والارضين نزل عن عرشه وكرسي عظمته ودخل في بطن امراة في محل الحيض والطمث عدة شهور ثم خرج من فرجها طفرً يمص الثدي ويبكي ، ويكبر شيئاً فشيئاً، ويأكل ويشرب ويبول، ويصح ويمرض، ويفرح ويحزن، ويلذ ويالم، ثم دبر حيلة على عدوه ابليس بان مكن اعداءه اليهود من نفسه، فامسكوه وساقوه الى خشبتين يصلبونه عليهما، وهم يجرونه الى الصلب، والاوباش والاراذل قدامه وخلفه وعن يمينه وعن يساره، وهو يستغيث ويبكي فقربوه من الخبتين، ثم توجوه بتارج من الشوك، واوجعوه صفعاً، ثم حملوه على الصليب وسمروا يديه ورجليه وجعلوه بين لصين، وهو الذي اختار هذا كله لتتم له الحيلة على ابليس ليخلص ىجم وسائ ر الانبياء من سجنه، ففداهم بنفسه حتى خلوصا من سجن ابليس.
واذا جاز اتفاق هذه الامة وفيهم الاحبار والرهبان والقسيسون والزهاد والعباد والفقهاء ومن ذكرتم على هذا القول في معبودهم والههم تى قال قائل منهم وهو من اكابرهم عندهم: اليد التي خلقت ادم هي التاي باشرت المسامير ونالت الصلب، فكيف لا يجوز عليهم الاتفاق على تكذيب من جاء بتكفيرهم وتضليلهم، ونادى سراً وهراً بكذبهم على الله وشتمهم له اقبح شتم، وكذبهم على المسيح ، وتبديلهم دينه، وعاداهم وقاتلهم، وبراهم من المسيح وبراه منهم، واخبر انهم وقود النار وحطب جهنم ؟ فهذا احد الاسباب التي اختاروا لاجلها الكفر على الايمان وهو من اعظم الاسباب.
فقولكم : ان المسلمين يقولون انهم لم يمنعهم من الدخول في الاسلام الا الرياسة الماكلة لا غير كذب على المسلمين، بل الرياسة والماكلة من جملة الاسباب المانعة لهم من الدخول في الدين، وقد ناظرنا نحن وغيرنا جماعة منهم فما تبين لبعضهم فساد ما هم عليه قالوا: لو دخلنا في الاسلام لكنا من اقل المسلمين لا يابه لنا، ونحن متحكمون في اهل ملتنا في اموالهم ومناصبهم ولنا بينهم اعظم الجاه!، وهل منع فرعون وقومه من اتبرا موسى الا ذلك ؟!

الاسباب المانعة من قبول الحق
والاسباب المانعة من قبول الحق كثيرة جداً فمنها: الجهل به ، وهذا السبب هو الغالب على اكثر النفوس، فان من جهل شيئاً عاداه وعادى اهله ، فان انضاف الى هذا السبب بغض من امره بالحق ومعاداته له وحسده كان المانع من القبول اقوى، فان انضاف الى ذلك الفه وعادته ومرباه على ما كان عليه اباؤه ومن يحبه ويعظمه قوي المانع، فان انضاف الى ذلك توهميه ان الحق الذي دعي اليه يحول بينه وبين جاهه وعزه وشهواته واغراضه قوي المانع من القبول جداً.
فان انضاف الى ذلك خوفه من اصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه كما وقع لهرقل ملك النصارى بالشام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ازداد المانع من قبول الحق قوة، فان هرقل عرف الحق وهم بالدخول في الاسلام فلم يطاوعه قومه وخافهم على نفسه فاختار الكفر على الاسلام بعد ما تبين له الهدى، كما سيأتي ذكر قصته ان شاء الله تعالى.
ومن اعظم هذه الاسباب : الحسد، فانه جاء كامن في النفس، ويرى الحاسد المحسود قد فضل عليه واوتي ما لم يؤت نظيره فلا يدعه الحسد ان ينقاد له ويكون من اتباعه.
وهل منع ابليس من السجود لادم الا الحسد ؟! فانه لما رآه قد فضل عليه ورفع غص بريقه واختار الكفر على الايمان بعد ان كان بين الملائكة.
وهذا الداء هو الذي منع اليهود من الايمان بعيسى ابن مريم وقد علموا علماً لا شك فيه انه رسول الله جاء بالبينات والهدى فحملهم الحسد على ان اختاروا الكفر على الايمان واطبقوا عليه، وهم امة فيهم الاحبار والعلماء والزهاد والقضاة والملوك والامراء.
هذا وقد جاء المسيح بحكم التوراة ولم يات بشريعة يخالفهم ولم يقاتلهم، وانما اتى بتحليل بعض ما حرم عليهم تخفيفاً ورحمة واحساناً ، وجاء مكملاً لشريعة التوراة، ومع هذا فاختاروا كلهم الكفر على الايمان ، فكيف يكون حالهم مع نبي جاء بشريعة مستقلة ناسخة لجميع الشرائع ، مبكتاً لهم بقبائحهم، ومنادياً على فضائحهم، ومخرجاً لهم من ديارهم، وقد قاتلوه وحاربوه وهو في ذلك كله ينصر عليهم ويظفر بهم ويعلو هو واصحابه وهو معه دائماً في سفال، فكيف لا يملك الحسد والبغي في قلوبهم؟ واين يقع حالهم معه من حالهم مع المسيح وقد اطبقوا على الكفر به من بعد ما تبين لهم الهدى؟ وهذا السبب وحده كاف في رد الحق، فكيف اذا انضاف اليه زوال الرياسات والمأكل كما تقدم؟

فصـل
اعتراف أبي جهل بنبوة محمد
وقد قال المسور بن مخرمة – وهو ابن اخت ابي جهل – لابي جهل يا خالي هل كنتم تتهمون محمداً بالكذب قبل ان يقول ما قال؟ فقال: يا ابن اختى! والله لقد محمد صلى الله عليه وسلم فينا وهو شاب يدعى الأمين، فما جربنا عليه كذبا قط قال : يا خال ! فما لكم لا تتبعونه؟ ! قال : يا ابن أختي تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، حى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسى رهان قالوا منا نبي فمتى ندرك مثل هذه؟ وقال الأخنس بن شريق يوم بدر لأبي جهل : يا أبا الحكم ! أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فانه ليس ها هنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا ؟ فقال أبو جهل : ويحك! والله ان محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟
فصـل
معرفة اليهود لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم حق المعرفة
وأما اليهود فقد كان علماؤهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، قال ابن اسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة، قال : هل تدري عما كان اسلام اسد وثعلبة ابني شعبة واسد بن عبيد ، لم يكونوا من بني قريظة ولا النضير كانوا فوق ذلك ؟ فقلت : لا ، قال فانه قدم علينا رجل من الشام من اليهود يقال له ابن الهيبان فاقام عندنا، والله ما رأينا رجلا يصلي خيرا منه، فقدم علينا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين، فكنا اذا قحطنا وقل علينا المطر نقول يا ابن الهيبان اخرج فاستسق لنا ، فيقول : لا والله حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة، فنقول : كم؟ فيقول صاع من تمر، أو مدين من شعير، فنخرجه ، ثم يخرج الى ظاهر حرتنا ونحن معه نستسقي، فوالله ما يقوم من مجلسه حتى تمطر ويمر بالشعاب، قد فعل ذلك مرة ولا مرتين ولا ثلاة، فحضرته الوفاة واجتمعنا اليه، فقال : يا معشر يهود! اترون ما اخرجني من ارض الخمر والخمير الى ارض البؤس والجوع؟ قالوا انت اعلم، قال : فاني انما خرجت اتوقع نبي قد اظل زمانه، هذه البلاد مهاجرة ، فاتبعوه ولا يسبقن اليه غيركم اذا خرج، يا معشر اليهود فانه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن يخالفه فلا منعكم ذلك منه ، ثم مات ، فلما كانت الليلة التي فتحت فيها قريظة، قال أولئك الثلاثة الفتية وكانوا شبانا أحداثا: يا معشر اليهود والله انه للذي ذكر لكم ابن الهيبان، فقالوا ما هو به ، قالوا : بلى والله انه لصفته، ثم نزلوا واسلموا وخلوا اموالهم واهليهم قال ابن اسحق: وكانت اموالهم في الحصن مع المشركين فما فتح ردت عليهم.
وقال ابن اسحاق: حدثني صالح بن ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد، قال كان بين أبياتنا يودي فخرج على نادي قومه بني عبد الاشهل ذات غداة فذكر البعث والقيامة والجنة والنار والحصاب والميزان، قال ذلك لاصحاب وثن لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت وذلك قبيل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: ويحك يا فلان ! وهذا كائن ، ان الناس يبعثون بعد موتهم الى دار فيها جنة ونار يجزون باعمالهم ؟! قال : نعم ، والذي يحلف به ، لوددت ان حظي من تلك النار ان توقدوا اعظم تنور في داركم فتحمونه ثم تقذفوني فيه ثم تطبقون علي واني انجو من النار غدا، فقيل : يا فلان ما علامة ذلك؟ قال: نبي يبعث من ناحية هذه البلاد واشار بيده نحو مكة واليمن، قالوا : فمتى نراه؟ فرمى بطرفته فرآني وانا مضطجع بفناء باب اهلي وانا احدث القوم ، فقال ان يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه، فما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وانه لحي بين اطهرنا، فآمنا به وصدقناه وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا يا فلان الست الذي قلت ما قلت واخبرتنا به ؟! قال ليس به.
قال ابن اسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: حدثني اشياخ منا قالوا: لم يكن احد من العرب اعلم بشان رسول الله صلى الله عليه وسلم منا، كان معنا يهود وكانوا اهل كتاب وكنا اصحاب وثن ، وكنا بلنا منهم ما يكرهون قالوا ان نبياً مبعوثاً الان قد اظل زمانه نتبعه فنقتلكم قتل عاد وارم، فلما بعث الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم اتبعناه وكفروا به ففينا وفيهم انزل الله عز وجل وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين .
وذكر الحاكم وغيره عن ابن ابي نجيح عن على الازدي، قال كانت اليهود تقول: اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فلما التقوا هزمت يهود خيبر فعاذت اليهود بهذا الدعاء ، فقالت: اللهم انا نسألك بحق محمد النبي الامي الذي وعدتنا ان تخرجه لنا في ىخر الزمان الا نصرتنا عليهم ، قال فكانوا اذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به فانزل الله عز وجل وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا يعني بك يا محمد فلعنة الله على الكافرين .
يستفتحون أي يستنصرون.
وذكر الحاكم وغيره ان بني النضير لما اجلوا من المدينة اقبل عمرو بن سعد فاطاف بمنازلهم فراى خرابها ففكر ثم رجع الى بني قريظة فوجدهم في الكنيسة فنفخ في بوقهم فاجتمعوا، فقال الزبير بن باطا: يا ابا سعد اين كنت منذ اليوم فلم نرك – وكان لا يفارق الكنيسة وكان يتاله في اليهودية قال: رايت اليوم عبراً اعتبرنا بها، رايت اخواننا قد جلوا بعد ذلك العز والجلد والشرف الفاضل والعقل البارع، قد تركوا اموالهم وملكها غيرهم وخرجوا خروج ذل، ولا والتوراة ما سلط هذا على قوم قط له بهم حاجة، وقد اوقع قبل ذلك بابن الاشرف في عزة بنيانه في بيته امنا، وأوقع بابن سنينة سيدهم ، واوقع ببني قينقاع فاجلاهم وهم جل اليهود وكانوا اهل عدة وسلاح نجدة – حصرهم النبي عليه السلام ، فلم يخرج انسان منهم راسه حتى سباهم ، فكلم فيهم فتركهم على ان اجلاهم من يثرب.
يا قوم قد رايتم ما رايتم فاطيعوني وتعالوا نتبعع محمداً ، فوالله انكم لتعلمون انه نبي وقد بشرنا به وبامره ابن الهيبان وابو عمرو بن حواس، وهما من اعلام اليهود جاءوا من بيت المقدس يتوفان قدومه وامرانا باتباعه وامرانا ان نقرئه منهما السلام ثم ماتا على دينهما ودفناهما بحرتنا ، فاسكت القوم فلم يتكلم منهم متكلم ، فاعاد هذا الكلام ونحوه وخوفهم بالحرب السباء والجلاء، فقال الزبير بن باطا: قد والتوراة قرات صفته في كتاب التوراة التي انزلت على موسى ليس في المثاني التي احدثنا ، فقال له كعب بن اسد : ما يمنعك يا ابا عبد الرحمن من اتتباعه؟ قال: انت ، قال : ولم فوالتوراة ما حلت بينك وبينه قط؟ قال الزبير: بل انت صاحب عهدنا وعقدنا فان اتبعته اتبعناه وان ابيت ابينا فاقبل عمرو بن سعد على كعب فذكر ما تقاولا في ذلك الى ان قال كعب : ما عني في ذلك الا ما قلت ، ما تطيب نفسي ان اصير تابعاً.
وهذا المانع هو الذي منع فرعون من اتباع موسى، فانه لما تبين له الهدى عزم على اتباع موسى عليه السلام ، فقال له وزيره هامان : بنا انت اله تعبد تصبح تعبد ربا غيرك قال : صدقت.
وذكر ابن اسحاق عن عبد الله بن ابي بكر ، قال : حدثت عن صفية بن حيي انها قالت : كنت احب ولد ابي اليه والى عمي ابي ياسر فما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة غدوا عليه ثم جاءا من العشى ، فسمعت عمي يقول لابي اهو هو قال : نعم والله ، قال اتعرفه وتثبته ، قال نعم، قال : فما في نفسك منه ، قال عدواته والله ما بقيت.
فهذه الامة الغضيبة معروفة بعداوة الانبياء قديماً واسلافهم وخيارهم ، قد أخبرنا الله سبحانه عن اذاهم لموسى ونهانا عن التشبه بهم في ذلك قال : يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها .
واما خلفهم فهم قتلة الانبياء : قتلوا زكريا وابنه يحيى وخلقاً كثيراً من الانبياء ، حتى قتلوا في يوم سبعين نبياً واقاموا لاسوق في اخر النهار كانهم لم يصنعوا شيئاً.
واجتمعوا على قتل المسيح وصلبه فصانه الله من ذلك واكرمه ان يهينه على ايديهم ، والقى شبهه على غيره فقتلوه وصلبوه.
وراموا قبل خاتم النبيين مراراً عديدة والله يعصمه منهم.
ومن هذا شانهم لا يكبر عليهم اختيار الكفر على الايمان لسبب من الاسباب التي ذكرنا بعضها او سببين او اكثر.

لا غرابة في جحد النصارى رسالة محمد وقد سبوا الله
وقد ذكرنا اتفاق امة الضلال وعبادة الصليب على مسبة رب العالمين اقبح مسبة ، على ما يعلم بطلانه بصريح العقل ، فان خفي عليهم ان هذا مسبة لله مع ان العق يحكم ببطلانه وبفساده من اول وهلة ، لم يكثر على تلك العقول السخيفة ان تسب بشراً ارسله الله ، وتجحد نبوته ، وتكابر ما دل عليه صريح العقل من صدقه وصحة رسالته ، فلو قالوا فيه ما قالوا لم يبلغ بعض قولهم في رب الارض والسموات الذي صاروا به ضحة بين جميع اصناف بني ادم.
فانه اطبقت على ان الاله الحق – سبحانه عما يقولون – صلب وصفح وسمر ووضع الشوك على راسه ودفن في التراب ، ثم قام في اليوم الثالث وصعد وجلس على عرشه يدبر امر السموات والارض ، لا يكثر عليها ان تطبق على جحد نبوة من جاء بسبها ولعنها ومحاربتها وابداء معايبها والنداء على كفرها بالله ورسوله ، والشهادة على براءة المسيح منها ومعاداته لها ثم قاتلها واذلها واخرجها من ديارهم وضرب عليها الجزية ، واخبر انها من اهل الجحيم خالدة مخلدة لا يغفر الله لها وانها شر من الحمير ، بل هي شر الدواب عند الله.
وكيف ينكر لامة اطبقت على صلب معبودها والهها ثم عمدت الى الصليب فعبدته وعظمته ، وكان ينبغي لها ان تحرق كل صليب تقدر لى احراقه ، وان تهينه غاية الاهانة اذ صلب عليه الهها الذي يقولون تارة : انه الله ، وتارة يقولون انه ابنه ، وتارة يقولون ثالث ثلاثة؟ فجحدت حق خالقها وكفرتت به اعظم كفر وسبته اقبح مسبة ، ات تجحد حق عبده ورسوله وتكفر به.
وكيف يكثر على امة قالت في رب الارض والسموات انه ينزل من السماء ليكلم الخلق بذاته لئلا يكون لهم حجة عليه ، فااراد ان يقطع حجتهم بتكليمه لهم بذاته لترتفع المعاذير عمن ضيع عهده بعد ما كلمه بذاته؟ فهبط بذاته من السماء ، والتحم في بطن مريم ، فاخذ منها حجاباً ، وهو مخلوق من طريق الجسم ، وخالق من طريق النفس ، وهو الذي خلق جسمه وخلق امه ، وامه كانت قبله بالناسوت ، وهو كان من قبلها باللاهوت ، وهو الاله التام ، والانسان التال ، ومن تمام رحمته تبارك وتعالى على عباده انه رضي باراقة دمه عنهم على خشبة الصليب ، فمكن اعداءه اليهود من نفسه ليتم سخطه عليهم، فاخذوه وصلبونه وصفعوه وبصقوا في وجهه ، وتوجوه بتاج من الشوك على راسه وغار دمه في اصبعه لانه لو وقع منه شيء الى الارض ليب كلما كان على وجهها ، فثبت في موضع صلبه النوار.
ولما لم يكن في الحكمة الازلية ان ينتقم الله من عبده العاصي الذي ظلمه او استهان بقدره لاعتلاء منزلة الرب وسقوط منزلة العبد اراد سبحانه ان ينتصف من الانسان الذي هو اله مثله ، فانتصف من خطيئة ادم بصلب عيسى المسيح الذي هو اله مساو له في الالهية ، فصلب ابن الله الذي هو الله في الساعة من يوم الجمعة.
هذه الفاظهم في كتبهم .
فامة اطبقت على هذا في معبودها؟! كيف يكثر عليها ان تقول في عبده ورسوله انه ساحر وكاذب وملك مسلط ونحو هذا؟ ولهذا قال بعض ملوك الهند : اما النصارى فان كان اعداؤهم من اهل الملل يجاهدونهم بالشرع فانا ارى جهادهم بالعقل ، وان كنا لا نرى قتال احد لكنى استثني هؤلاءالقوم من جميع لعالم ؟ لانهم قصدوا مضادة العقل وناصبون العداوة وشذوا عن جميع مصالح العالم الشرعية والعقلية الواضحة ، واعتقدوا كل مستحيل ممكناً ، وبنوا من ذلك شرعاً لا يؤدي الى صلاح نوع من انواع العالم ، ولكنه يصير العاقل اذا شرع به اخرق ، والرشيد سفيهاً ، والحسن قبيحاً ، والقبيح حسناً لان من كان في اصل عقيدته التي جرى نشؤه عليها الاساءة الى الخلاق والنيل منه ، وسبه اقبح مسبة ، ووصفه بما يغير صفاته الحسنى ، فاخلق به ان يستسهل الاساءة الى مخلوق ، وان يصفه بما يغير صفاته الجميلة ، فلو لم تجب مجاهدة هؤلاء القوم الا لعموم اضرارهم التي لا تحصى وجوهها كما يجب قبل الحيوان المؤذي بطبعه لكانوا اهلا لذلك أ. هـ.
والمقصود ان الذي اختاروا هذه المقالة في رب العالمين على تعظيمه تنزيهه واجلاله ووصفه بما يليق به ، هم الذين اختاروا عبادة صور خطوها بايديهم في الحيطان مزوقة بالاحمر والاصفر والازرق ، لو دنت منها الكلاب لبالت عليها ، واعطوها غاية الخضوع والذل والخشوع والبكاء وسالوها المغفرة والرحمة والرزق والنصر ، هم الذين اختاروا التكذيب بخاتم الرسل على الايمان به وتصديقه واتباعه ، الذين نزهوا بطارقتهم وبتاركتهم عن الصاحبة والولد ونحلوهما للفرد الصمد… هم الذي انكروا نبوة عبده وخاتم رسله
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elmastor99.ahlamontada.com
admin
Admin



عدد المساهمات : 1587
تاريخ التسجيل : 09/09/2009
الموقع : https://elmastor99.ahlamontada.com/admin/index.forum?part=users_groups&sub=users&mode=edit&u=1&extended_admin=1&sid=c1629deafff60446a84e167c5d6aaa07

............كتاب بن القيم .....منقول ( 1 ) Empty
مُساهمةموضوع: .......... كتاب .. هداية الحياري لإبن القيم .... ( 3 ) منقول   ............كتاب بن القيم .....منقول ( 1 ) Icon_minitimeالثلاثاء أكتوبر 20, 2009 1:40 pm


صلاة النصارى إستهزاء بالمعبود
والذين اختاروا صلاة يقوم اعبدهم وازهدهم اليها ، والبول على ساقه وافخاذه فيستقبل الشرق ثم يصلب على وجهه ويعبد الاله المصلوب ، ويستفتح الصلاة بقوله : يا ابانا انت الذي في السموات تقدس اسمك وليات ملكك ولتكن ارادتك في السماء مثلها في الارض اعطنا خبزنا الملايم لنا.
ثم يحدث من هو الى جانبه ، وربما سال عن سعر الخمر والخنزير وعما كسب في القمار وعما طبخ في بيته ، وربما احدث وهو في صلاته ، ولو اراد لبال في موضعه ان امكنه ، ثم يدعو تلك الصورة الي هي صنعة يد الانسان.
فالذين اختاروا هذه الصلاة على صلاة من اذا قام الى صلاته طهر اطرافه وثيابه وبدنه من النجاسة ، واستقبل بيته الحرام ، وكبر الله وحمده وسبحه ، واثنى عليه بما هو اهله ، ثم ناجاه بكلامه المتضمن لافضل الثناء عليه وتحميده وتمجيده وتوحيده ، وافراده بالعبادة والاستعانة وسؤاله اجل مسئول وهو الهداية الى طريق رضاه التي خص بها من انعم الله عليه دون طريق الامتين : المغضوب عليهم وهم اليهود ، والضالين وهم النصارى ، ثم اعطى كل جارحة من الجوارح حظها من الخشوع والخضوع والعبودية مع غاية الثناء والتمجيد لله رب العالمين ، لا يلتفت عن معبوده بوجهه ولا قلبه ، ولا يكلم احداً كلمة ، بل قد فرغ قلبه لمعبوده واقبل عليه بقلبه ووجهه ، ولا يحدث في صلاته ، ولا يجعل بين عينيه صورة مصنوعة يدعوها ويتضرع اليها.
فالذين اختاروا تلك الصلاة التي هي في الحقيقة استهزاء بالمعبود لا يرضاها المخلوق لنفسه فضلا ان يرضى بها الخالق على هذه الصلاة التي لو عرضت على من له ادنى مسكة من عقل لظهر له التفاوت بينهما.
هم الذين اختاروا تكذيب رسوله وعبده على الايمان به وتصديقه.
فالعاقل اذا وازن بين ما اختاروا ورغبوا فيه وبين ما رغبوا عنه تبين له ان القوم اختاروا الضلالة على الهدى والغي على الرشاد ، والقبيح على الحسن ، والباطل على الحق ، وانهم اختاروا من العقائد ابطلها ، ومن الاعمال اقبحها.
واطبق على ذلك اساقفهم وبتاركهم ورهبانهم فضلا عن عوامهم وسقطهم.
ولم يقل احد من المسلمين ان ما ذكرتم من صغير وكبير وذكر وانثى وحر وعبد وراهب وقسيس كلهم تبين له الهدى ، بل اكثرهم جهال بمنزلة الدواب السائمة ، معرضون عن طلب الهدى فضلاً عن تبينه لهم ، وهم مقلدون لرؤسائهم وكبرائهم وعلمائهم – وهم اقل القليل وهم الذين اختاروا الكفر على الايمان بعد تبين الهدى.
واي اشكال يقع للعقل في ذلك ؟ فلم يزل في الناس من يختار الباطل ، فمنهم من يختاره جهلا وتقليداً لمن يحسن الظن به ، ومنهم من يختاره مع علمه ببطلانه كبراً وعلواً ، ومنهم من يختاره طمعاً ورغبة في ماكل او جاه او رياسة، ومنهم من يختاره حسداً وبغياً ومنهم من يختاره محبة في صورة وعشقاً ، ومنهم من يختاره خشية ، ومنهم من يختاره راحة ودعة ، فلم تنحصر اسباب اختيار الكفر في حب الرياسة والمأكلة.

فصل
السؤال الثاني
واما المسالة الثانية وهو قولكم : هب انهم اختاروا الكفر لذلك فهلا اتبع الحق من لا رياسة له ولا ماكلة اما اختياراً واما قهراً؟.
فجوابه من وجوه احدها : انا قد بينا ان اكثر من ذكرتم قد امن بالرسول وصدقه اختياراً لااضطراراً واكثرهم اولو العقول والاحلام والعلوم ممن لا يحصيهم الا الله ، فرقعة الاسلام انما انتشرت في الشرق الغرب باسلام اكثر الطوائف ، دخلوا دين الله افواجاً حتى صار الكفار معهم تحت الذلة والصغار.
وقد بينا ان الذين اسلموا من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين اكثر من الذين لم يسلموا ، وانه انما بقي منهم اقل القليل ، وقد دخل في دين الاسلام من ملوك الطوائف ورؤسائهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق كثير ، فهذا (ملك النصارى على اقليم الحبشة) في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لما تبين له انه رسول الله امن به ودخل في دينه واوى اصحابه ومنعهم من اعدائهم ، وقصته اشهر من ان تذكر ولما مات اعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم اصحابه بالساعة التي توفى فيها وبينهما مسيرة شهر ، ثم خرج بهم الى المصلى وصلى عليه.

نبذة عن النجاشي ملك الحبشة ووفد مشركي قريش إليه
وروى الزهري عن ابي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي ، عن ام سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : لما نزلنا ارض الحبشة جاورنا بها خير جار : النجاشي ، امنا على ديننا، وعبدنا الله لا نؤذي ولا نسمع شيئا نكرهه ، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا على ان يبعثوا الى النجاشي هدايا مما يستظرف من متاع مكة ، وكان من اعجب ما يأتيه منها الادم فجمعوا له ادماً كثيراً ، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً الا اهدوا له هدية ، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن ابي ربيعة المخزومي وعمرو بن العاص ، وامروهما امرهم ، وقالوا لهما ادفعا الى كل بطريق هديته قبل ان تكلما النجاشي فيهم ، ثم قدما الى النجاشي هداياه ، ثم سلاه ان يسلمهم اليكما قبل ان يكلمهم .
قالت : فخرجا فقدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار وعند خير جوار ، فلم يبق من بطارقته بطريق الا دفعا اليه هديته قبل ان يكلما النجاشي.
ثم قالا لكل بطريق انه قد صبا الى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم ، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا انتم ، وقد بعثنا اليك فيهم اشراف قومهم من ابائهم واعمامهم وعشائرهم لتردهم اليهم ، فاذا كلمنا الملك فيهم فاشيروا عليه بان يسلمهم الينا ولا يكلمهم ، فان قومهم على بهم عينا ، واعلم بما عابوا عليهم ، فقالوا : نعم.
ثم انهما قربا هداياهما ال النجاشي فقبلها منهما ، ثم كلماه فقالا له : ايها الملك انه قد صبا الى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك ، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا انت ، وقد بعثنا اليك فيهم اشراف قومهم من ابائهم واعمامهم وعشائرهم لتردهم اليهم ، فهم اعلى بهم عينا ، واعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه ، قالت : ولم يكن شيء ابغض الى بد اله ابن ابي ربيعة وعمرو بن العاص من ان يسمع النجاشي كلامهما ، فقالت بطارقته حوله صدقوا ايها الملك ، قومهم اعلى بهم عيناً واعلم بما عابوا عليهم فاسلمهم اليهما ليردوهما الى بلادهم وقومهم ، قالت : فغضب النجاشي ، ثم قال : والله لا اسلمهم اليهما ولا اكيد اقوام جاوروني ونزلوا ببلادي واختاروني على من سواي حتى ادعوهم فاسالهم ما يقول هذان في امرهم ، فان كانوا يقولان اسلمتهم ورددتهم الى قومهم وان كانوا على غير ذلك منعتهم منهما واحسنت جوارهم ما جاوروني.
قالت : ثم ارسل الى اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم ، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل اذا جئتموه ، قالوا نقول والله ما علمنا وما امرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائنا في ذلك ما هو كائن ، فلما جاءوه – وقد دعا النجاشي اساقفته فنشروا مصاحفهم حوله – سالهم فقال : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين احد من هذه الامم ؟ قالت : وكان الذي كلمه جعفر بن ابي طالب، فقال له : ايها الملك ! كنا قوما اهل جاهلية نعبد الاصنام ، وناكل الميتة، وناتي الفواحش ، ونقطع الارحام ، ونسيئ الجوار ، يأكل القوي منا الضغيف ، فكنا عل ذلك حتى بعث الله الينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وامانته وعفافه ، فدعانا الى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن واباؤنا من دونه من الحجارة والاوثان ، وامرنا بصدق الحديث ، واداء الامانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور واكل مال اليتيم وقذف المحصنة ، وامرنا ان نعبد الله لا نشرك به شيئاً ، وامرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
قالت : فعدد عليه امور الاسلام ، فصدقناه وامنا به واتبعناه على م جاء به فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئاً ، وحرمنا ما حرم علينا ، واحللنا ما احل لنا ، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا الى عبادة الاوثان من عبادة الله عز وجل وان نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا الى بلدك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا ان لا نظم عندك ايها الملك.
قالت : فقال النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله من شيئ ؟ قالت : فقال له جعفر: نعم ، فقال له النجاشي : فاقرأه علي ، فقرأ عليه صدراً من كهيعص قالت : فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت اساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم ، ثم قال النجاشي : ان هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة ، انطلقوا فوالله لا اسلمهم اليكما ابجداً ولا اكيد.
قالت ام سلمة : فلما خرجنا من عنده قال عمرو بن العاص : والله لاتينه غداً اعيبهم عنده بما استااصل به خضراؤهم ، قالت : فقال عبد الله بن ابي ربيعة وكان ابقى الرجلين فينا : لا تفعل فان لهم ارحاماً وان كانوا قد خالفونا ، قال : والله لاخبرنه انهم يزعمون ان عيسى بن مريم عبد ، قالت : ثم غدا عليه من الغد فقال له : ايها الملك انهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما فارسل اليهم فاسالهم عما يقولون فيه ، قالت فارسل اليهم فسالهم عنه ، قالت ولم ينزل مثلها.
فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض : ما تقولون في عسى اذا سالكم عنه ، قالوا نقول والله فيه ما قال الله عز وجل به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن ، فلما دخلوا عليه قال لهم : ما تقولون في عيسى بن مريم ؟ فقال له جعفر بن ابي طالب نقول فيه الذي جاء به نبينا هو عبد اله ورسوله وروحه وكلمته التي القاها الى مريم العذراء البتول وروح منه ، فضرب النجاشي يده الى الارض فاخذ منها عوداً ثم قال ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا هالعود ، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال ، فقال : وان نخرتم ، وانخرتم والله ، اذهبوا فانتم سيوم بأرضي - والسيوم : الآمنون – من سبكم غرم ، من سبكم غرم ، ما أحب ان لي دبر ذهب واني أذيت رجلا منكم – والدبر : بلسان الحبشة الجبل – ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة الي بها ، فوالله ما اخذ الله مني الرشوة حين رد على ملكي فآخذ الرشوة فيه ، وما اطاع الناس في فاطيعهم فيه.
قالت : فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به ، واقمنا عنده بخير دار مع خير جار، قالت فوالله انا لعلى ذلك اذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه ، قال فوالله ما علمنا خزناً قط كان اشد من حزن حزناه عند ذلك تخوفاً ان يظهر على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه.
قالت فسار النجاشي وبينهما عرض النيل فقال اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم حتى يأتينا بالخبر ؟ قالت فقال الزبير : أنا ، وكان من احدث القوم سنا ، قالت فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج الى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم ، قالت ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده فاستوثق له امر الحبشة ، فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما كان شهر ربيع الاول سنة سبع من الهجرة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الى النجاشي كتاباً يدعوه فيه الى الاسلام ، وبعث به مع عمرو بن امية الضمري ، فلما قرئ عليه الكتاب أسلم ، وقال : لو قدرت على ان آتيه لأتيته.
وكتب اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يزوجه ام حبيبة بنت ابي سفيان واصدق عنه اربعمائة دينار ، وكان الذي تولى التزويد خالد بن سعيد بن العاص بن امية.
وكتب اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يبعث اليه من بقي عنده من اصحابه ويحملهم ففعل، فقدموا المدينة فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ، فشخصوا اليه فوجدوه قد فتح خيبر، فكلم رسول اله صلى الله عليه وسلم المسلمين ان يدخلوهم في سهامهم ففعلوا.
فهذا ملك النصارى قد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن به واتبعه .
وكم مثله من هو دونه ممن هداه الله من النصارى قد دخل في الدين ، وهم اكثر باضعاف مضاعفة ممن اقام على النصرانية.
قال ابن اسحاق : وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلاً او قريباً من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة فوجدوه في المسجد ، فجلسوا اليه وكلموه وقبالتهم رجال من قريش في انديتهم حول الكعبة.
فلما فرغوا من مسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما ارادوا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الله ، وتلا عليهم القرآن فلما سمعوه فاضت اعينهم من الدمع ، ثم استجابوا له وامنوا به وصدقوه ، وعرفوا منه ما كان يوسف لهم في كتابهم من امره فلما قاموا عنه اعترضهم ابو جهل ابن هشام في نفر من قريش ، فقالوا لهم : خيبكم الله من ركب ؟ بعثكم من ورائكم من اهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتمون بما قال ؟! ما نعلم ركبا أحمق منكم ؟ او كما قالوا.
فقالوا لهم : سلام عليكم ، لا نجاهلكم ، لنا ما نحن عليه ولكم ما انتم ليه ، لم نأل من أنفسنا خيراً ، ويقال ان النفر من النصارى من اهل نجران، ويقال فيهم نزلت الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون * وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين وقال الزهري : ما زلت اسمع من علمائنا انهن نزلن في النجاشي واصحابه.

خبر وفد نصارى نجران
قال ابن اسحاق: ووفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران بالمدينة ، فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، قال : لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه مسجده بعد العصر ، فحانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجده فاراد الناس منعهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوهم فستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم ، وكانوا ستين راكباً ، منهم أربعة وعشرون رجلاً من اشرافهم ، منهم ثلاثة نفر اليهم يؤول امرهم ، هم العاقب أمير القوم وذوو رايهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون الا عن رايه وامره ، واسمه عبد المسيح، والسيل عقالهم وصاحب رحلهم ومجمعهم.
وأبو حارثة بن علقمة اسقفهم وحبرهم وامامهم وصاحب مدراسهم ، وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم ، وكانت ملوك الروم من اهل النصرانية قد شرفوه ومولوه واخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم .
فلما وجهوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران جلس ابو حارثة على بغلة متوجهاً الى رسول الله صلى الله عليه وسلم والى جنبه اخ له يقال له كرز بن علقمة يسايره اذ عثرت بغلة ابي حارثة ، بل انت تعست.
فقال : ولم يا أخي ؟ فقال والله انه للنبي الذي كنا ننتظره ، فقال لك كرز فما يمنعك من اتباعه وانت تعلم هذا ؟ فقال : ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا واكرمونا وقد ابوا الا خلافه ، ولو فعت نزعوا منا كل ما ترى ، فاصر عليها اخوه كرز بن علقمة حتى اسلم بعد ذلك.
فهذا وامثاله من الذين منعتهم الرياسة والماكل من اختيار الهدى وآثروا دين قومهم .
واذا كان هذا حال الرؤساء المتبوعين الذين هم علماؤهم واحبارهم كان بقيتهم تبعاً لهم ، وليس بمستنكر ان تمنع الرياسة والمناصب والمآكل الرؤساء ويمنع الاتباع تقليدهم ، بل هذا هو الواقع والعقل لا يستشكله.
خبر عدي بن حاتم الطائي
وكان من رؤساء النصارى الذين دخلوا في الإسلام لما تبين لهم أنه الحق، الرئيس المطاع في قومه عدي بن حاتم الطائي ونحن نذكر قصته كما رواها الإمام أحمد و الترمذي و الحاكم وغيرهم.
قال عدي بن حاتم : أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس في المسجد، فقال القوم: هذا عدي بن حاتم -وجئت بغير أمان ولا كتاب- فلما رفعت إليه أخذ بيدي، وقد كان قال قبل ذلك: إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي، قال: فقام لي، فلقيه امرأة وصبي معها فقالا إن لنا إليك حاجة، فقام معهما حتى قضى حاجتهما، ثم أخذ بيدي حتى أتى بي داره فألقت له الوليدة وسادة فجلس عليها، وجلست بين يديه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما يفرك أن تقول لا إله إلا الله ؟ فهل تعلم من إله سوى الله قال: قلت لا ، ثم تكلم ساعة، ثم قال: ما يفرك أن يقال الله تعالى أكبر وتعلم أن شيئاً أكبر من الله ؟ قال: قلت لا.
قال: فإن اليهود مغضوب عليهم وإن النصارى ضلال قال: قلت فإني حنيف مسلم، قال: فرأيت وجهه ينبسط فرحاً، قال: ثم أمر بي فأنزلت عند رجل من الأنصار جعلت أغشاه آتيه طرفي النهار، قال فبينا أنا عنده عشية إذ جاءه في ثياب من الصوف من هذه الثمار.
قال: فصلى وقام فحث عليهم.
ثم قال: ولو بصاع ، ولو بنصف صاع، ولو بقبضة، ولو ببعض قبضة، بقي أحدكم وجهه حر جهنم أو النار ولو بتمرة ولو بشق تمرة، فإن أحدكم لاقي الله وقائل له ما أقول لكم، ألم أجعل لك سمعاً وبصراً ؟ فيقول : بلى ، فيقول: ألم أجعل لك مالاً وولداً ؟ فيقول: بلى، فيقول: أين ما قدمت لنفسك ؟! فينظر قدامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله ثم لا يجد شيئاً يقي وجهه حر جهنم، ليق أحدكم وجهه النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة، فإني لا أخاف عليكم الفاقة، فإن الله ناصركم ومعطيكم حتى لتسير الظعينة، فيما بين يثرب والحيرة أكثر ما يخاف على مطيتها السرق، قال فجعلت أقول في نفسي فأين لصوص طي.
وكان عدي مطاعاً في قومه بحيث يأخذ المرباع من غنائمهم.
وقال حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين: قال: قالأبو عبيدة بن حذيفة قال عدي بن حاتم: بعث الله محمداً -صلى الله عليه وسلم- فكرهته أشد ما كرهت شيئاً قط، فخرجت حتى أتيت أقصى أرض العرب مما يلي الروم، ثم كرهت مكاني أشد مما كرهت مكاني الأول، فقلت لو أتيته فسمعت منه، فأتيت المدينة فاستشرفني الناس، وقالوا جاء عدي بن حاتم الطائي ! جاء عدي بن حاتم الطائي ! فقال: يا عدي بن حاتم الطائي أسلم تسلم فقلت إني على دين، قال: أنا أعلم بدينك منك قلت : أنت أعلم بديني مني ؟ قال: نعم، قال هذا ثلاثا، قال: ألست ركوسياً ، قلت: بلى، قال: ألست ترأس قومك ؟ ، قلت: بلى، قال: ألست تأخذ المرباع، قلت بلى، قال: فإن ذلك لا يحل لك في دينك قال فوجدت بها على غضاضة، ثم قال: العلى أن يمنعك أن تسلم أن ترى عندنا خصاصة، وترى الناس علينا ألباً واحداً، هل رأيت الحيرة ؟ قلت لم أرها وقد علمت مكانها، قال: فإن الظعينة سترحل من الحيرة تطوف بالبيت بغير جوار، وليفتحن.
الله علينا كنوز كسرى بن هرمز، قلت: كسرى بن هرمز ؟ قال: كنوز كسرى بن هرمز، وليفيض المال حتى يهتم الرجل من يقبل منه صدقته قال فقد رأيت الظعينة ترحل من الحيرة بغير جوار، وكنت أول خيل أغارت على المدائن، ووالله لتكونن الثالثة أنه حديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-.

خبر سلمان الفارسي
وقد كان سلمان الفارسي من اعلم النصارى بدينهم ، وكان قد تيقن خروج النبي صلى الله عليه وسلم فقدم لمدينة قبل مبعثه ، فلما رآه عرف انه هو النبي الذي بشر به الميح فآمن به واتبعه ، ونحن نسوق قصته.
قال ابن اسحاق : حدثني عاصم ، عن محمود ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال حدثني سلمان الفارسي من فيه ، قال كنت رجلاً فارسياً من اهل أصبهان من قرية يقال لها جي.
وكان ابي دهقان قريته ، وكنت حب خلق الله اليه لم يزل حبه اياي حتى حبسني في بيت كما تحبس الجارية ، فاجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار التي توقدها لا نتركها تخبو ساعة.
وكانت لأبي ضيعة عظيمة فشغل في بنيان له يوماً .
فقال : يا بني اني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي فاذهب اليها فاطلعها ، وامرني فيها ببعض ما يريد ، ثم قال لي : ولا تحتبس عني فانك ان احتبست عني كنت اهم الي من ضيعتي وشغلتني عن كل شيئ من أمري.
فخرجت اريد ضيعته التي بعثني اليها فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي اياي في بيته فلما سمعت أصواتهم ، دخلت عليهم انظر ما يصنعون ، فما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في امرهم ، وقلت هذا والله خير من الذي نحن عليه، فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعته فلم آتها ، ثم قلت لهم : اين اصل هذا الدين ؟ قالوا : بالشام.
فرجعت الى ابي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله ، فلما جئته قال : يا بني اين كنت؟ الم اكن عهدت اليك ما عهدت ؟ قلت : يا أبت مررت باناس يصلون في كنيسة لهم فاعجبني ما رايت من دينهم فوالله ما زلت حتى غربت الشمس ، قال : أي بني ! ليس في ذلك الدين خير ، دينك ودين آبائك خير منه ، فقلت له : كلا والله انه لخير من ديننا.
فخافني فجعل في رجلي قيداً حبسني في بيته ، وبعثت الى النصارى فقلت لهم : اذا قدم عليكم ركب من الشام فاخبروني بهم ، فقدم عليهم تجار من النصارى فاخبروني ، فقلت لهم : اذا قضوا حوائجهم وارادوا الرجعة الى بلادهم فآذنوني بهم ، قال : فلما ارادوا الرجعة اخبروني بهم فألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام ، فلما قدمتها قلت : من أفضل أهل الدين علماً ؟ قالوا : الأسقف في الكنيسة ، فجئته فقلت له : اني قد رغبت في هذا الدين ، واحببت ان اكون معك فاخدمك في كنيستك ، وأتعلم منك ، وأصلي معك ، قال : ادخل ، فدخلت معه.
فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم يها فإذا جمعوا إليه شيئاً منها اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين ، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق.
فأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع ، ثم مات واجتمعت النصارى ليدفنون فقلت لهم : إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئاً .
فقالوا لي : وما علمك بذلك ؟ قلت : أنا أدلكم على كنزه ، فأريتهم موضعه فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهباً وورقاً ، فلما رأوها قالوا : والله لا ندفنه أبداً ، فصلبوه ورموه بالحجارة !!.
وجاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه ، فما رأيت رجلاً يصلي – أرى – أنه أفضل منه ولا أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلاً ولا نهاراً منه ، فأحببته حباً لم أحبه شيئاً قبله ، فأقمت معه زماناً ثم حضرته الوفاة ، فقلت له : يا فلان إني قد كنت معك وأحببتك حباً لم أحبه أحداً قبلك وقد حضرك من أمر الله ما ترى .
فإلى من توصي بي ؟ وبم تأمرني؟ فقال : أي بني واله ما أعلم أحداً على ما كنت عليه ، ولقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان وهو على ما كنت عليه.
فما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل فقلت له يا فلان إن فلاناً أوصاني عند موته أن ألحق بك ، وأخبرني أنك على أمره ، فقال : أقم عندي ، فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه ، فلما حضرته الوفاة قلت له : يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك وقد حضرك من أمر الله ما ترى ، فإلى من توصي بي ؟ وبم تأمرني؟ قال : يا بني والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا رجلاً بنصيبين وهو فلان فالحق به.
فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي ، فقال : أقم عندي ، فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبه ، فأقمت مع خير رجل ، فوالله ما لبث أن نزل به الموت ، فلما حضر قلت له : يا فلان إن فلاناً أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصي بي ؟ وبم تأمرني؟ فقال : يا بني ! والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمك أن تأتيه إلا رجلاً بعمورية من أرض الروم ، فإنه على مثل ما نحن عليه ، فإن أحببت فأته.
فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية فأخبرته خبري ، فقال : أقم عندي فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم ، فاكتسبت حتى كانت لي بقيرات وغنيمة ، ثم نزل به أمر الله ، فلما حضر قلت له : يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إليك ، فإلى من توصي بي ؟ وبم تأمرني ؟ قال : يا بني والله ما أعلمه أثبح على مثل ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه .
ولكنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب ، مهاجره إلى أرض بين حرتين ، بينهما نخل ، به علامات لا تخفى : يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل ، ثم مات وغيب ، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث.
ثم مر بي نفر من كلب تجار ، فقلت لهم : احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقيراتي هذه وغنيماتي هذه ، قالوا نعم ، فأعطيتهم فحملوني معهم ، حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل يهودي فكنت عنده ، فرأيت النخل فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق في نفسي ، فبينما أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة فابتاعني منه فحملني إلى المدينة ، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي ، فأقمت بها.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق ، ثم هاجر إلى المدينة ، فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل سيدي جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال : يا فلان قاتل الله بني قليلة والله إنهم الآن لمجتمعون معنا على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي ، فلما سمعتها أخذتني العرواء حتى ظننت إني ساقط على سيدي، فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك : ما تقل ؟ فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة ، ثم قال : مالك ولهذا ؟ أقبل على عملك ! فقلت : لا شئ إنما أردت أن استبثه عما قال ، وقد كان عندي شئ جمعته فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقبا فدخلت عليه ، فقلت له : إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة ، وهذا شئ كان عندي للصدقة فلرأيتكم أحق به من غيركم ، فقربته إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : كلوا وأمسك فلم يأكل ، فقلت في نفسي هذه واحدة .
ثم انصرفت عنه فجمعت شيئاً.
وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم جئته به ، فقلت : إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها ، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه فأكلوا معه ، فقلت في نفسي هاتان اثنتان ، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة رجل من أصحابه وعلى شملتان لي وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه ثم استدرت أأنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي فلما رآني صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني أستثبت في شئ وصف لي ، فألقى الرداء عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم فعرفته ، فأكببت عليه أقبله وأبكي ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول فتحولت فجلست بين يديه ، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس ، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه.
ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد ، قال سلمان ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : كاتب يا سلمان فكاتبت صاحبي على ثلثمائة نخلة أحييها له بالفقير وأربعين أوقية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينوا أخاكم فأعونوني بالنخل : الرجل بثلاثين ودية ، والرجل بعشرين ودية ، والرجل بخمسة عشر ، والرجل بعشر ، يعينني الرجل بقدر ما عنده ، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذهب يا سلمان ففقر لها فإذا فرغت فإنني أكن أنا أضعها بيدي ففقرت ، وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت جئته فأخبرته.
فخرج معي إليها ، فجعلن نقرب إليه الودى ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى فرغت، فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة ، فأديت النخل وبقي على المالي ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن فقال : ما فعل الفارسي المكاتب فدعيت له فقال : خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان فقلت : وأين تقع يا رسول الله مما علي ؟ قال : خذها فإن الله سيؤدي بها فأخذتها فوزنت منها لهم والذي نفسي بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم ، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق ثم لم يفتني معه مشهد.

اعتراف هرقل بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم
وكان ملك الشام – أحد أكابر عملائهم بالنصرانية – (هرقل) قد عرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً ، وعزم الإسلام فأبى عليه عباد الصليب ، فخافهم عل نفسه ، وضن بمله – مع علمه – أنه سينقل عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته – ونحن نسوق قصته.
ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس ، أن أبا سفيان أخبره من فيه إلى فيه ، قال : انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال فبينا أنا بالشام إذ جئ بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ، فقال هرقل : هل ههنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ قالوا نعم ، قال فدعيت في نفر من قريش ، فدخلنا على هرقل ، فأجلسنا بين يديه ، وأجلسوا أصحابي خلفي ، فدعا بترجمانه فقال : قل لهم إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي فإن كذبني فكذبوه .
فقال أبو سفيان : وأيم الله لولا مخافة أن يؤثر على الكذب لكذبت.
ثم قال لترجمانه : سله كيف حسبه فيكم ؟ قال قلت : هو فينا ذو حسب قال : فهل كان من آبائه من ملك قلت : لا .
قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا ، قال : ومن اتبعه ، أشراف الناس أم ضعفاؤهم ؟ قلت : بل ضعفاؤهم ، قال : أيزيدون أم ينقصون ؟ قلت : لا بل يزيدون ، قال : فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟ قال قلت : لا قال : فهل قاتلتموه ؟ قلت نعم ، قال فكيف كان قتالكم إياه ؟ قال قلت : يكون الحرب بيننا وبينه سجالا يصيب منا ونصيب منه، قال : فهل يغدر ؟ قلت لا ونحن منه في مدة ما ندري ما هو صانع فيها ، قال : فواله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه ، قال: فهل قال هذا القول أحد قبله ؟ قلت لا.
قال لترجمانه : قال له إني سألتك عن حسبه فزعمت أنه فيكم ذو حسب ، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها ، وسألتك هل كن آبائه ملك ؟ فزعمت أن لا ، فقلت لو كان في آبائه ملك لقلت يطلب ملك آبائه ، وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم ؟ فقلت بل ضعفاؤهم ، وهم أتباع الرسل.
وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فزعمت أن لا ، فقد رفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على اله عز وجل ، وسألتك هل يرتد أحد مهم عن دينه بعد أن يدخله سخطة له ؟ فزعمت أن لا وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب ، وسألتك هل يزيدون أم ينقصون ؟ فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم .
وسألتك هل قاتلتموه ؟ فزعمت أنكم قاتلتموه فيكون الحرب بينكم وبينه سجالاً ينال منكم وتنالون منه ، وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة .
وسألتك هل يغدر ؟ فزعمت أنه لا يغدر ، وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله ؟ فزعمت أن لا ، فقلت لو قال هذا القول أحد من قبله قلت رجل إئتم بقول قيل قبله .
ثم قال : فبم يأمركم ؟ قلت : يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف.
قال : إن يكن ما تقول حقاً إنه لنبي ، وقد كنت أعلم أنه خارج ولكن لم أكن أظنه منكم ، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه وليبلغن ملكه ما تحت قدمي.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه ، فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ، فلما قرأه فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط وأمر بنا فأخرجنا ، ثم أذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ، ثم أمر بأبوابها فغلقت ، ثم اطلع فقال : يا معشر الروم ‍‍هل لكم في الفلاح والرشد وأن تثبت مملكتكم فتبايعوا هذا النبي ؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت ، فلما رأى هرقل نفرته وأيس من الإيمان : قال : ردوهم علي ، فقال : إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم ، وقد رأيب ، فسجدوا له رضوا عنه.
فهذا ملك الروم – وكان من علمائهم أيضا عرف وأقر أنه نبي وأنه سيملك ما تحت قدميه وأحب الدخول في الإسلام فدعى قومه إليه فولوا عنه معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ومنعه من الإسلام الخوف على ملكه ورياسته ، ومنع أشباه الخمير ما منع الأمم قبلهم.

إسلام النجاشي ملك نصارى الحبشة
ولما عرف النجاشي ملك الحبشة أن عباد الصليب لا يخرجون عن عبادة الصليب إلى عبادة الله وحده أسلم سراً ، وكان يكتم إسلامه بينهم هو وأهل بيته ولا يمكنه مجاهرتهم ، ذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليه عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه مكانه يدعوه إلى الإسلام ، فقال له عمرو : يا أصحمة ! على القول وعليك الاستماع : إنك كأنك في الرقة علينا منا وكأنا في الثقة بك منك لأنا لم نظن بك خيراً قط إلا نلناه ، ولم نخفك على شئ قط إلى أمناه ، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك ، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد ، وقاض لا يجور ، وفي ذلك موقع الحز وإصابة المفصل، وإلا فأنت في هذا النبي الأمي كاليهود في عيسى ابن مريم ، وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم رسله إلى الناس فرجاك لما لم يرجهم له، وأمنك على ما خافهم عليه لخير سالف وأجر منتظر.
فقال النجاشي : أشهد بالله أنه لنبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب ، وأن بشارة زكريا براكب الحمار كبشارة أشعياء براكب الجمل ، وأن العيان ليس بأشفى من الخبر.
قال الواقدي : وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة .
اسلم أنت فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيب والحصينة ، حملت بعيسى خلقه من روحه ونفخه ، كما خلق آدم بيده ، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، والموالاة على طاعته ، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله إليك ، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل ، وقد بلغت ونصحت فقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى … فكتب إليه النجاشي : بسم الله الرحمن الرحيم ، إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة ، سلام عليك يا نبي الله من الله وبركات الله الذي لا إله إلا هو .
أما بعد فلقد بلغني كتابك فيما ذكرت من أمر عيسى ، فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت تفروقاً ، إنه كما ذكرت ، وقد عرفنا ما بعثت به إينا ، وقد قربنا ابن عمك وأصحابه ، فأشهد إنك رسول الله صادقاً مصدقاً وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين.
والتفروق علامة تكون بين النواة والتمرة.

اعتراف المقوقس ملك النصارى بمصر بالنبي -صلى الله عليه وسلم-
وكذلك ملك دين النصرانية بمصر (المقوقس) عرف أنه نبي صادق ، ولكن منعه من أتباعه ملكه وأن عباد الصليب لا يتركون عبادة الصليب.
ونحن نسوق حديثه وقصته ، قال الواقدي كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإني أدعوك بداعية الإسلام ، أسلم تسلم ، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم القبط يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون وختم الكتاب.
فخرج به حاطب حتى قدم عليه الاسكندرية ، فانتهى إلى حاجبه فلم يلبثه أن أوصل إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال حاطب للمقوقس لما لقيه : إنه قد كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى فانتقم به ثم انتقم منه ، فاعتبر بغيرك ولا يعتبر بك غيرك.
قال : هات ، قال : إن لنا يناً لم ندعه إلا لما هو خير منه وهو الإسلام الكافي به الله فقد ما سواه، إن هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش وأعداهم له اليهود وأقربهم منه النصارى ، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد.
وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل ، وكل نبي أدرك قوماً فهم أمته ، فالحق عليهم أن يطيعوه ، فأنت ممن أدرك هذا النبي ، ولسنا ننهاك عن ين المسيح ولكنا نأمرك به .
فقال المقوقس : إني قد نظرت في أمر هذا النبي فرأيته لا يأمر بمزهود فيه ولا ينهى ن مرغوب عنه ، ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكاذب ، ووجدت معه آلة النبوة من إخراج الخبء والإخبار بالنجوى ووصف لحاطب أشياء من صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : القبط لا يطاوعونني في اتباعه ، ولا أحب أن تعلم بمحاورتي إياك ، وأنا أضن بملكي أن أفارقه ، وسيظهر على بلادي وينزل بساحتي هذه أصحابه من بعده ، فارجع إلى صاحبك.
وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فجعله في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى جارية له ، ثم دعا كتاباً له يكتب بالعربية فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، لمحمد ابن عبد الله ، من المقوقس عظيم القبط ، سلام عليك ، أما بعد .
فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه ، وما تدعو إليه وقد علمت أن نبياً بقي ، وكنت أظن أنه يخرج بالشام ، وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم ، وبكسوة وأهديت إليك بغلة لتركبها ، والسلام عليك ، ولم يزد.
والجاريتان : مارية وسيرين ، والبغلة : دلدل ، وبقيت إلى زمن معاوية .
قال حاطب فذكرت قوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ضن الخبيث بملكه ، ولا بقاء لملكه
[b]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elmastor99.ahlamontada.com
admin
Admin



عدد المساهمات : 1587
تاريخ التسجيل : 09/09/2009
الموقع : https://elmastor99.ahlamontada.com/admin/index.forum?part=users_groups&sub=users&mode=edit&u=1&extended_admin=1&sid=c1629deafff60446a84e167c5d6aaa07

............كتاب بن القيم .....منقول ( 1 ) Empty
مُساهمةموضوع: .......... كتاب .. هداية الحياري لإبن القيم .... ( 4 ) منقول   ............كتاب بن القيم .....منقول ( 1 ) Icon_minitimeالثلاثاء أكتوبر 20, 2009 1:43 pm

[center]إسلام حيفر وعبيد ابني الجلندي من ملوك النصارى
وكذلك ابنا الجلندي ملكا عمان وما حولها من ملوك النصارى أسلما طوعاً واختياراً ، ونحن نذكر قصتهما وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما ، وهذا لفظه: بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله إلى حيفر وعبيد ابني الجلندي ، سلام على من اتبع الهدى … ( أما بعد) .
فإني أدعوكما بداعية الإسلام ، أسلما تسلما ، فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين ، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما مكانكما ، وإن أبيتما أن قرا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما ، وخيلي تحل بساحتكما ، وتظهر نبوتي على ملككما .
وختم الكتاب وبعث به مععمرو بن العاص.
قال عمرو : فخرجت حى انتهيت إلى عمان ، فلما قدمتها انتهيت إلى عبيد وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقاً ، فقلت : إني رسول الله إليك وإلى أخيك ، فقال أخي المقدم على بالسن والملك ، وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك ، ثم قال لي : وما تدعو إليه ، قلت أدعوك إلى الله وحده لا شريك له وتخلع ما عبد من عبد من دونه ، وتشهد أن محمداً عبده ورسوله.
قال : يا عمرو إنك سيد قومك فكيف صنع أبوك فإن لنا فيه قدوة ؟ قلت: مات ولم يؤمن بمحمد وودت أنه كان أسلم وصدق به ، وكنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام.
قال : فمتى تبعته؟ قلت : قريبا ، فسألني أين كان إسلامي ؟ فقلت عند النجاشي وأخبرته أن النجاشي قد أسلم .
قال : فكيف صنع قومه بملكه ؟ قلت : أقروه.
قال : والأساقفة والرهبان ؟ قلت : نعم.
قال : انظر يا عمرو ما تقول إنه ليس خصلة في رجل أفضح له من كذب.
قلت : ما كذبت وما نستحله في ديننا ثم قال : ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي. قلت : بلى.
قال : بأي شئ علمت ذلك ؟ قلت : كان النجاشي يخرج له خراجاً فلما أسلم وصدق بمحمد قال لا والله لو سألني درهماً واحداً ما أعطيته ، فبلغ هرقل قوله ، فقال له نياق أخوه : اتدع عبدك لا يخرج لك خراجاً ويدين ديناً محدثاً ؟ قال هرقل : رجل يرغب في دين واختاره لنفسه ما أصنع به ، والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع.
قال : انظر ما تقول يا عمرو ؟ قلت : والله لقد صدقتك.
قال : عبيد : فأخبرني ما الذي يأ/ر به وينهى عنه ؟ قلت : يأمر بطاعة الله عز وجل وينهى عن معيته ، ويأمر بالبر وصلة الرحم وينهى عن الظلم والعدوان ، وعن الزنا وشرب الخمر ، عن عبادة الحجر والوثن والصليب.
فقال : ما أحسن هذا الذي هذا الذي يدعو إليه لو كان أخي يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به ، ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه ويصير دينا.
قلت : إنه إن أسلم ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه فأخذ الصدقة من غنيهم فردها على فقيرهم .
قال : إن هذا لخلق حسن ، وما الصدقة ؟ فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات في الأموال حتى انتهيت إلى الإبل.
فقال : يا عمرو ويؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى الشجر وترد المياه ؟ فقلت : نعم ، فقال : واله ما أرى قومي في بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا.
قال : فمكثت ببابه أياماً وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبري .
ثم إنه دعاني يوماً فدخلت عليه فأخذ أعوانه بضبعى فقال : دعوه ، فأرسلت ، فذهبت لأجلس فأبوا أن يدعوني أجلس ، فنظرت إليه فقال : تكلم بحاجتك ، فدفعت إليه الكتاب مختوماً ففض خاتمه فقرأه حتى انتهى إلى آخره ، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته إلا أني رأيت أخاه أرق منه ، ثم قال : ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت ؟ فقلت : اتبعوه إما راغب في الإسلام وإما مقهور بالسيف.
قال : ومن معه ؟ قلت : الناس قد رغبوا في الإسلام واختاروه على غيره وعرفوا بعقولهم مع هدى الله إياهم أنهم كانوا في ضلال ، فما أعلم أحداً بقي غيرك في هذه الحرجة ، وإن أنت لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل ويبيد خضراءك ، فأسلم تسلم ويستعملك على قومك ولا تدخل عليك الخيل والرجال .
قال : دعني يومي هذا وارجع إلى غداً.
فرجعت إلى أخيه فقال : يا عمرو إني لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه .
حتى إذا كان الغد أتيت إليه فأبى أن يأذن لي فانصرفت إلى أخيه فأخبرته أني لم أصل إليه فأوصلني إليه، فقال : إني فكرت فيما دعوتني إليه فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلاً ما في يدي وهو لا يبلغ خيله ههنا ، وإن بلغت خيله ألفت قتالا ليس كقتال من لاقى ، قلت : وأنا خارج غداً ، فلما أيقن بمخرجي خلا به أخوه فقال : ما نحن فيما قد ظهر عليه ، وكل من أرسل إليه قد أجابه ، خلا به أخوه فقال : ما نحن فيما قد ظهر عليه ، وكل من أرسل إليه قد أجابه ، فأصبح فأرسل إلى فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعاً وصدقا النبي صلى الله عليه وسلم ، وخليا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عوناً على من خالفني.
خبر هوذة بن علي الحنفي
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي ، سلام على من اتبع الهدى ، وأعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافز ، فألم تسلم ، أجعل لك ما تحت يدك .
وكان عنده أركون دمشق – عظيم من عظماء النصارى – فسأله عن النبيصلى الله عليه وسلم؟ وقال : قد جاءني كتابه يدعوني إلى الإسلام .
فقال له الأركون : لم لا تجيبه ؟ فقال : ضننت بديني وأنا ملك قومي إن اتبعته لم أملك ، قال : بلى والله لئن اتبعته ليمكنك وإن الخيرة لك في اتباعه ، وإنه للنبي العربي الذي بشر به عيسى ابن مريم ، والله إنه لمكتوب عندنا في الإنجيل.

خبر الحارث بن أبي شمر
وذكر الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث شجاع بن وهب إلى الحارث بن أبي شمر وهو بغوطة دمشق ، فكتب إليه مرجعه من الحديبية.
بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر ، سلام على من اتبع الهدى وآمن به وصدق ، وإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له ، يبقى لك ملكك وختم الكتاب.
فخرج به شجاع بن وهب ، قال فانتهيت إلى حاجبه فوجدته يومئذ وهو مشغول بتهيئة الإنزال والإلطاف لقيصر وهو جاء من حمص إلى إيليا حيث كشف الله عنه جنود فارس شكراً لله عز وجل، قال فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة ، فقلت لحاجبه : إني رسول رسول الله إليه ، فقال حاجبه : لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا ، وجعل حاجبه ، وكان رومياً اسمه مرى ، يسألني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه فكنت أحدثه فيرق حتى يغلبه البكاء ، ويقول إني قرأت في الإنجيل وأجد صفة هذا النبي بعينه فكنت أراه يخرج بالشام فإذا بي أراه قد خرج بأرض العرب ، فأنا أؤمن به وأصدقه وأنا أخاف من الحارث بن أبي شمر أن يقتلني .
قال شجاع : فكان هذا الحاجب يكرمني ويحسن ضيافتي ، ويخبرني عن الحارث باليأس منه، ويقول هو يخاف قيصر ، قال : فخرج الحارث يوماً وجلس فوضع التاج على رأسه فأذن لي عليه ، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه ، وقال : من ينتزع مني ملكي ؟! أنا سائر إليه ولو كان باليمن جئته ، علي بالناس ، فلم يزل جالساً حتى الليل ، وأمر بالخيل أن تنعل ، ثم قال أخبر صاحبك ما ترى ، وكتب إلى قيصر يخبره خبري فصادف قيصر بإيليا وعنده دحية الكلبي قد بعثه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما قرأ قيصر كتاب الحار كتب إليه أن لا تسر إليه وتلهى نه وافني بإيليا .
قال ورجع الكتاب وأنا مقيم ، فدعاني وقال متى تريد أن تخرج إلى صاحبك ؟ قلت : غداً ، فأمر لي بمائة مثقال ذهباً ، ووصلني (مرى) بنفقة وكسوة ، وقال : اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وأخبره أنب متبع دينه ، قال شجاع: فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال باد ملكه وأقرأته من مري السلام وأخبرته بما قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق .
ونحن إنما ذكرنا بعض ملوك الطوائف الذي آمنوا به وأكابر علمائهم وعظمائهم ولا يمكننا حصر من عداهم جمهور أهل الأرض ، ولم يتخلف متابعته إلا الأقلون ، وهم: إما مسالم له قد رضي بالذلة والجزية والهوان ، وإما خائف منه فأهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلمون له ، ومسالمون له ، وخائفون منه.

خبر إسلام عبد الله بن سلام من علماء اليهود
ولو لم يسلم من اليهود في زمنه إلا سيدهم على الإطلاق وابن سيدهم وعالمهم وابن عالمهم باعترافهم له بذلك وشهادتهم : عبد الله بن سلام ، لكان في مقابلة كل يهودي على وجه الأرض، فكيف وقد تابعه على الإسلام من الأحبار والرهبان من لا يحصى عددهم إلا الله.
ونحن نذكر قصة عبد الله بن سلام ، روى البخاري في صحيحه من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك ، قال أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فقالوا : جاء نبي الله ن فاستشرقوا ينظرون ، إذ سمع به عبد اله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف لهم فيها فجاء وهي معه، فسمع من نبي الل صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله ، فلما خلي نبي الله صلى الله عليه وسلم جاء عبد الله بن سلام ، فقال أشهد أنك نبي الله حقاً وأنك جئت بالحق ، ولقد علمت اليهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم ، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت ، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس في.
فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم إليهم فدخلوا عليه ، فقال لهم نبي الله صلى الله عليه وسلم يا معشر اليهود ويلكم ! اتقوا الله ، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقاً ، وأني جئتكم بحق ، أسلموا ، قالوا : ما نعلمه ، فأعادها عليهم ثلاثاً وهم يجيبونه كذلك ، قال : أي رجل فيكم عبد الله بن سلام ؟ قالوا : ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا ، قال : أفرأيتم إن أسلم؟ ، قالوا حاش لله ما كان ليسلم ، فقال : يا ابن سلام أخرج عليهم قال : فخرج عليهم فقال : يا معشر اليهود ويلكم ، اتقوا الله ! فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله حقاً ، وأنه جاء بالحق ، فقالوا كذبت ، فأخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح البخاري أيضاً من حديث حميد عن أنس ، قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض له ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ، ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ ، قال : أخبرني بهن جبريل آنفاً ، قال : جبريل ؟ قال : نعم ، قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة ، قال ثم قرأ هذه الآية : من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله أما أول أشراط الساعة فنار تخرج على الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت ، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه ، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أمه فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله ، إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني ، فجاءت اليهود إليه ، فقال : أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا خيرنا وابن خيرنا ، سيدنا ، وابن سيدنا ، قال : ؟ أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام قالوا أعاذه الله من ذلك ، فخرج عبد الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، قالوا : شرنا وابن شرنا . وانتقصوه ، قال : هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله.
وقال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر ، عن يحيى بن عبد الله ، عن رجل من آل عبد الله بن سلام ، قال كان من حديث عبد الله بن سلام حيث أسلم ، وكان حبراً عالماً ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت صفته واسمه وهيأته والذي كنا نتوكف له ، فكنت مسراً لذلك صامتاً عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فلما قدم نزل معنا في بني عمرو بن عوف ، فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لي أ'مل فيها ، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة ، فلما سمعت الخبر بقدومه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كبرت ، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري : لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت.
قال ، قلت لها : أي عمة هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به ، فقالت : يا ابن أخي أهو النبي الذي كنا نبشر به أنه يبعث مع نفس الساعة ؟ قال قلت لها : نعم ، قالت : فذاك إذن ، قال : ثم خرجت إلى رسول اله صلى الله عليه وسلم فأسلمت ، ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا ، وكتمت إسلامي من اليهود ، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إن اليهود قوم بهت وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك تغيبني عنهم ثم تسألهم عني كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي ؟ فإنهم إن علموا بذلك بهتوني وعابوني.
قال فأدخلني بعض بيوته ، فدخلوا عليه فكلموه وسألوه ، فقال لهم : أي رجل عبد الله بن سلام فيكم ؟ قالوا : سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا ، قال : فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم ، فقلت لهم : يا معشر اليهود ! اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به ، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة اسمه وصفته ، فإني أشهد أنه رسول الله ، وأؤمن به وأصدقه وأعرفه.
قالوا: كذبت ، ثم وقعوا في ، فقلت : يا رسول الله ألم أخبرك أنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور ؟! قال فأظهرت إسلامي وأسلم أهل بيتي، وأسلمت عمتي ابنة الحارث فحسن إسلامها.
وفي مسند الامام أحمد وغيره عنه قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وانجفل الناس قبله ، فقالوا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فجئت في الناس لأنظر إلى وجهه ، فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كاذب ، فكان أول شئ سمعته منه أن قال : يا أيها الناس أطعموا الطعام وأفشوا السلام وصلوا الأرحام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام .
فعلماء القوم وأحبارهم كلهم كانوا كما قال الله عز وجل الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، فمنهم من آثر الله ورسوله والدار الآخرة ، ومنهم من آثر الدنيا وأطاع داعي الحسد والكبر.
وفي مغازي موسى بن عقبة عن الزهري ، قال : كان بالمدينة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أوثان تعبدها رجال من أهل المدينة لا يتركونها ، فأقبل عليهم قومهم وعلى تلك الأوثان فهدموها ، وعمد أبو ياسر ابن أخطب أخو حيي ابن أخطب وهو أبو صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فسمع منه وحادثه ، ثم رجع إلى قومه وذلك قبل أن تصرف القبلة نحو المسجد الحرام فقال أبو ياسر : يا قوم أطيعوني فإن الله عز وجل قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرون ، فاتبعوه ولا تخالفوه.
فانطلق أخوه حيي حين سمع ذلك – وهو سيد اليهود يومئذ وهما من بني النضير فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إليه وسمع منه ، فرجع إلى قومه وكان فيه مطاعا ، فقال أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدواً أبداً ، فقال له أخوه أبو ياسر : يا ابن أمي أطعني في هذا الأمر ثم اعصني فيما شئت بعده لئلا تهلك ، قال: لا والله لا أطيعك واستحوذ عليه الشيطان فاتبعه قومه على رأيه !.
وذكر ابن اسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عمن حدثه عن صفية بنت حيي أنها قالت: لم يكن من ولد أبي وعمى أحد أحب إليهما مني لم ألقهما في ولد قط إلا أخذاني دونه ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبا نزل في بني عمرو بن عوف ، فغدا إليه أبي وعمي أبو ياسر ابن أخب مغلسين ، فوالله ما جاءا إلا مع مغيب الشمس ، فجاءا فاترين كسلين ساقطين يمشيان الهوينا ، فهششت إليهما كما كنت أصنع فوالله ما نظر إلي واحد منهما ، فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي : أهو هو ؟ قال : نعم والله ، قال : تعرفه بنعته وصفته ؟ قال : نعم والله ، قال : فماذا في نفسك منه ، قال : عداوته والله ما بقيت.
قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن سعيد بن جبير عكرمة عن ابن عباس ، قال : لما أسلم عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن شعية ، وأسد بن شعية، وأسيد بن عبيد ، ومن أسلم من اليهود ، وآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام ، قال من كفر من اليهود: ما آمن بمحمد ولا اتبعه إلا شرارنا ، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره ، فأنزل الله عز وجل في ذلك ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين .

السؤال الثالث
وأما السؤال الثالث وهو : قال السائل : مشهور عندكم في الكتاب والسنة أن نبيكم كان مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل لكنهم محوه عنهما لسبب الرياسة والمأكلة ، والعقل يستشكل ذلك ، أفكلهم اتفقوا على محو اسمه من الكتب المنزلة من ربهم شرقاً وغرباً جنوباً وشمالاً ؟! هذا أمر يستشكله العقل أعظم من نفيهم بألسنتهم لأنه يمكن الرجوع عما قالوا بألسنتهم والرجوع عما محوا أبعد.
والجواب: إن هذا السؤال مبني على فهم فاسد ، وهو أن المسلمين يعتقدون أن اسم النبي صلى الله عليه وسلم الصريح وهو محمد بالعربية مذكور في التوراة والإنجيل - وهما الكتابان المتضمنان لشريعتين – وأن المسلمين عتقدون : ان اليهود والنصارى في جميع اقطار الأرض محوا ذلك الاسم وأسقطوه جملة من الكتابين وتواصوا بذلك بعداً وقرباً وشرقاً وغرباً.
وهذا لم يقله عالم من علماء المسلمين ولا أخبر الله سبحانه به في كتابه عنهم ، ولا رسوله ولا بكتهم به يوماً من الدهر ، ولا قاله أحد من الصحابة ، ولا الأئمة بعدهم ، ولا علماء التفسير، ولا المعتنون بأخبار الأمم وتواريخهم .
وإن قدر أنه قاله بعض عوام المسلمين يقصد به نصر الرسول فقد قيل : يضر الصديق الجاهل أكثر مما يضر العدو العاقل.
وإنما أتى هؤلاء من قلة (فهمهم ل) القرآن، وظنوا أن قوله تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، دل على الاسم الخاص بالعربية في التوراة والإنجيل المخصوصين وأن ذلك لم يوجد البتة.
والحق … أن الرب سبحانه : انما أخبر عن كون رسوله مكتوباً عندهم أي الإخبار عنه وصفته ومخرجه ونعته ، ولم يخبر بأن صريح اسمه العربي مذكور عندهم في التوراة والإنجيل ، وهذا واقع في الكتابين كما سنذكر ألفاظهما إن شاء اله ، وهذا أبلغ من ذكره بمجرد اسمه ، فإن الاشتراك د يقع في الاسم فلا يحصل التعريف والتمييز ، ولا يشاء أحد يسمى بهذا الاسم أن يدعى به بيان ولا تعريف ولا هدى، بخلاف ذكره بنعته صفته وعلاماته ودعوته وصفة أمته ووقت مخرجه ونحو ذلك فإن هذا يعينه ويميزه ويحصر نوعه في شخصه.
وهذا القدر مذكور في التوراة والإنجيل وغيرها من النبوات التي بأيدي أهل الكتاب كما سنذكرها ، ويدل عليه وجوه: الوجه الأول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحرص الناس على تصديقه واتباعه إياه وإقامة الحجة على من خالفه وجحد نبوته ، ولا سيما أهل العلم والكتاب، فإن الاستدلال عليهم بما يعلمون بطلانه قطعاً لا يفعله عاقل ، وهو بمنزلة من يقول لرجل علامة صدقي أنك فلان بن فلان ، وصنعتكم كيت وكيت، وتعرف بكيت وكيت ، ولم يكن الأمر كذلك بل بضده ، فهذا لا يصدر ممن له مسكة عقل ، ولا يصدقه أحد على ذلك ، ولا يتبعه أحد على ذلك ، بل ينفر العقلاء كلهم عن تصديقه واتباعه، والعادة تحيل سكوتهم عن الطعن عليه والرد والتهجين لقوله ،ومن المعلوم بالضرورة أن محمداً بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه نادى معلناً في هاتين الأمتين اللتين هما أعلم المم في الأرض قبل مبعهث بأن ذكره ونعته وصفته بعينه عندهم ف كتبهم وهو يتلو ذلك عليهم ليلاً ونهاراً ، وسراً وجهاراً ، في كل مجمع ، وفي كل ناد يدعوهم بذلك إلى تصديقه والإيمان به.
فمنهم من يصدق ويؤمن به ، ويخبر بما في كتبهم من نعته وصفته وذكره كما سيمر بك إن شاء الله ، وغاية المكذب الجاحد أن يقول هذا النعت والوصف حق ولكن لست أنت المراد به بل نبي آخر، وهذا غاية ما يمكنه من المكابرة ، ولم تجد عليه هذه المكابرة إلا كشفه عورته وإبدائه الفضيحة بالذب والبهتان ، فالصفات والنعوت والعلامات الم1كورة عندهم منطبقة عليه حذو القذة بالقذة بحيث لا يشك من عرفها ورآه أنه هو كما عرفه قيصر وسلمان بتلك العلامات المذكورات التي كانت عنده من بعض علمائه وكذك هرقل عرف نبوته بما وصف له من العلامات التي سأل عنها أبا سفيان فطابقت ما عنده ، فقال : إن يكن ما تقول حقاً فإنه نبي وسيملك ما تحت قدمي هاتين .
وكذلك من قدمنا ذكرهم من الأحبار والرهبان الذين عرفوه بنعته وصفته كما يعرفون أبناءهم.
قال تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون قال تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ومعلوم أن هذه المعرفة إنما هي بالنعت والصفة المكتوبة عندهم التي هي منطبقة عليه ، كما قال بعض المؤمنين منهم : واله لحدنا أعرف به من ابنه ، إن أحدنا ليخرج من عند امرأته وما يدري ما يحدث بعده.
ولهذا أثنى الله سبحانه على من عرف الحق منهم ولم يستكبر عن اتباعه فقال : لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين * وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين * فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم .

ذكر وفد أصحاب النجاشي
قال ابن عباس : حضر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي النجاشي وقرءوا القرآن سمع ذلك القسيسون والرهبان فانحدرت دموعهم ما عرفوا من الحق ، فقال الله تعالى: ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون .
وقال سعيد بن جبير : بعث النجاشي من خيار أصحابه ثمانين رجلاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم القرآن فبكوا ورقوا ، وقالوا نعرف والله ، فأسلموا وذهبوا إلى النجاشي فأخبروه فأسلم، فأنزل الله فيهم: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول الآيات .
وقال السدي: كانوا اثنى عشر رجلا سبعة من القسيسين وخمسسة من الرهبان فلما قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن بكوا وقالوا ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين .
قال ابن عباس : هم محمد وأمته ، وهم القوم الصالحون الذين طمعوا أن يدخلهم الله فيهم ، والمقصود أن هؤلاء الذي عرفوا أنه رسول الله بالنعت الذي عندهم لم يملكوا أعنيهم من البكاء وقلوبهم من المبادرة إلى الإيمان ، ونظير هذا قوله سبحانه : قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا .
قال إمام التفسير مجاهد : هم قوم من أهل الكتاب لما سمعوا القرآن خروا سجداً وقالوا : سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا .
كان الله عز وجل قد وعد على ألسنة أنبيائه ورسله أن يبعث في أخر الزمان نبياً عظيم الشأن يظهر دينه على الدين له ، وتنتشر دعوته في أقطار الرض ، وعلى رأس أمته تقوم الساعة وأهل الكتابين مجمعون على أن الله وعدهم بهذا النبي ، فالسعداء منهم عرفوا الحق فآمنوا به واتبعوه ، والأشقياء قالوا نحن ننتظره ولم يبعث بعد رسولا ، فالسعداء لما سمعوا القرآن من الرسول عرفوا أنه النبي الموعود به فخروا سجداً لله أيماناً به وبرسول وتصديقاً بوعده الذي أنجزه فرأوه عياناً فقالوا : سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا .
كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نصارى نجران
وذكر يونس بن بكير عن لمة بن عبد يسوع عن أبه عن جده قال يونس ، وكان نصرانياً فأسلم ، أن رسول اله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجرا : بسم إله إبراهيم وأسحاق ويعقوب ، من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران (سلم أنتم) إني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، (أما بعد) فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد ، فإن أبيتم فالجزية ، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب .
والسلام .
فلما أتى الأسقف الكتاب وقرأه فظع به ، وذعر ذعراً شديداً ، فبعث إلى رجل من أهل عمان يقال له شرحبيل بن وداعة وكان من همدان ولم يكن أحد يدعى إلى معضلة قبله فدفع الأسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل فقرأه ، فقال الأسقف : ما رأيك يا أبا مريم ؟ فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما نأمن من أن يكون هذا هو ذاك الرجل ، ليس لي في النبوة رأي ، لو كان أمر من الدنيا أشرت عليك فيه برأي وجهدت لك فقال الأسقف تنح فاجلس ، فتنحى ناحية.
فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له عبد الله بن شرحبيل وهو من ذي أصبح من حمير فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه ، فقال له مثل قول شرحبيل ، فأمره الأسقف فتنحى.
ثم بعث إلى رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه ، فقال له مثل قول شرحبيل وعبد الله ، فأمره الأسقف فتنحى ناحية.
فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعاً أمر الأسقف بالناقوس فضرب به ورفعت المسوح بالصوامع ، وكذلك كانا يفعلون إذا فزعوا بالنهار ، وإذا كان فزعهم ليلاً ضرب بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع ، فاجتمع أهل الوادي أعلاه وأسفله وطوله مسيرة يوم للراكب السريع وفيه ثلاثة وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل ، فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عن الرأي فيه ، فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني وعبد الله بن شرحبيل وجبار بن فيض فيأتونه بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم ولبسوا حللاً لهم يجرونها من حبة وخواتيم الذهب ، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسلموا عليه فلم يرد عليهم السلام ، وتصدوا لكلامه نهاراً طويلاً فلم يكلمهم وعيهم تلك الحلل والخواتيم الذهب ، فانطلقوا يبتغون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وكانا معرفة لهم كانا يبعثان العير إلى نجران في الجاهلية فيشترون لهما من برها وتمرها فوجدوهما في ناس من المهتجرين والأنصار في مجلس ، فقالوا : يا عثمان ويا عبد الرحمن إن نبيكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا ، فتصدينا لكلامه نهراً طويلاً فأعيانا أن يكلمنا ، فما الرأي منكما، أنعود أم نرجع إليه ؟ فقالا لعلي بن أبي طالب وهو في القوم ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ فقال علي لعثمان وعبد الرحمن : أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهن ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودون إليه ، ففعل وفد نجران ذلك .
ووضعوا حللهم وخواتيمهم ، ثم عادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه فرد عليهم سلامهم ، ثم قال : والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم .
ثم سألهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له : ما تقول في عيسى فانا نحب ان نعلم ما تقول فيه ، فانزل الله عز وجل إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين فأبوا أن يقروا بذلك .
فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أخبرهم الخبر أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي عند ظهره إلى الملاعنة وله يومئذ عدة نسوة فاقل شرحبيل لصاحبيه يا عبد الله بن شرحبيل ويا جبار بن فيض لقد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي وإني والله أرى أمرا مقبلاً ، واله لئن كان هذا الرجل ملكاً مبعوثاً فكنا أول العرب طعن في عينه ورد عليه في أمره لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور قومه حتى يصيبا بجائحة وإنا لأدنى العرب منهم جواراً ، ولئن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعناه لا يبقى على وجه الأرض منا شعرة ولا ظفر إلا هلك ، فقال له صاحباه : فما الرأي ي أبا مريم ؟ فقد وضعتك الأمور على ذراع فهات رأيك ، فقال : رأيي أن أحكمه ، فإني أرى الرجل لا يحكم شططاً أبداً ، فقالا له أنت وذاك.
فلقي شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال إني قد رأيت خيراً من ملاعنتك ، فقال : وما هو ؟ قال شرحبيل حكمتك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعل وراءك أحداً يثرب عليك ؟ ، فقال له شرحبيل سل صاحبي ، فسألهما فقالا ما نرد الموارد ولا نصدر المصادر إلا عن رأي شرحبيل.
فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلاعنهم ، حتى إذا كان الغد أتون فكتب لهم كتاب صلح وموادعة ، فقبضوا كتابهم وانصرفوا إلى نجران.
فتلقاهم الأسقف ووجوه نجران على مسيرة ليلة من نجران ، ومع الأسقف أخ له من أمه وهو ابن عمه من النسب يقال له أبو علقمة ، فدفع الوفد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأسقف ، فبينما هو يقرؤه أبو علقمة معه وهما يسيران إذ كبت بأبي علقمة ناقته فتعس غير أنه لا يكني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له الأسقف عند ذلك : قد والله تعست نبياً مرسلاً ، فقال له أبو علقمة : لا جرم والله لا أحل عنها عقداً حتى آتيه ، فضرب وجه ناقته نحو المدينة وثنيى الأسقف ناقته عليه ، فقال له : افهم عني ، إنما قلت هذا مخافة أن يبلغ عني العرب أنا أخذتنا حمقة أو نجعنا لهذا الرجل بما لم تنجع به العرب ونحن أعزهم وأجمعهم داراً.
فقال له أبو علقمة : والله لا أقيلك ما خرج من رأسك أبداً ، ثم ضرب ناقته يقول : إليك تعدو قلقاً وضينها معترضاً في بطنها جنينها مخالفاً دين النصارى دينها حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل معه حتى استشهد بعد ذلك.

مجمل الأدلة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مذكور في الكتب القديمة
وإذا عرف هذا فالعلم بأنه صلى الله عليه وسلم مذكور في الكتب المتقدمة يعرف من وجوه متعددة.
أحدها: أخبار من قد ثبتت بنوته قطعاً با،ه مذكور عندهم في كتبهم ، فقد أخبر به من قام الدليل القطعي على صدقه فيجب تصديقه فيه ، إذ تكذيبه والحالة هذه ممتنع لذاته ، هذا لو لم يعلم ذلك إلا من مجرد خبره فكيف إذا تطابقت الأدلة على صحة ما أخبر به .
الوجه الثاني : أنه جعل الإخبار به من أعظم أدلة صدقه وصحة نبوته ، وهذا يستحيل أن يصدر إلا من واثق كل الوثوق بذلك وأنه على يقين جازم به.
الثالث: أن المؤمنين به من الحبار والرهبان الذي آثروا الحق على البالط صدقوه في ذلك وشهدوا له بما قال.
الرابع: أن المكذبين والجاحدين لنبوته لم يمكنهم إنكار البشارة والإخبار بنبوة نبي عظيم الشأن صفته كذا وكذا وصفة أمته مخرجه وشأنه ، لكن جحدوا أن يكون هو الذي وقعت به البشارة وأنه نبي آخر غيره ، وعلموا هم والمؤمنون به من قومهم أنهم ركبوا متن المكابرة وامتطوا قارب البهت.
الخامس : أن كثيراً منهم صرح لخاصته وبطانته بأنه هو بعينه ، وأنه عازم على عداوته ما بقي ، كما تقدم.
السادس : أن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مذكور في كتبهم هو فرد من أفراد إخباراته بما عندهم في كتبهم من شأن أنبيائهم وقومهم وما جرى لهم وقصص النبياء المتقدمين وأممهم وشأن المبدأ والمعاد وغير ذلك مما أخبرت به الأنبياء ، وكل ذلك مما يعلمون صدقه فيه ومطابقته لما عندهم ، وتلك الإخبارات أكثر من أن تحصى ، ولم يكذبون يوماً واحداً في شئ منها ، وكانوا أحرص شئ على أن يظفروا منه بكذبة واحدة أو غلطة أو سهو فينادون بها عليه ، ويجدون بها السبيل إلى تنفير الناس عنه ، فلم يقل أحد منهم يوماً من الدهر أنه أخبر بكذا وكذا في كتبنا وهو كاذب فيه بل كانوا يصدقونه في ذلك وهم مصرون على عدم اتباعه ، وهذا من أعظم الأدلة على صدقه فيما أخبر به لو لم يعلم إلا بمجرد خبره.
السابع : أنه أخبر بهذا لأعدائه من المشركين الذين لا كتاب عندهم وأخبر به لأعدائه من أهل الكتاب وأخبر به لأتباعه ، فلو كان هذا باطلا لا صحة له ، لكان ذلك تسليطاً للمشركين أن يسألوا أهل الكتاب فينكرون ذلك وتسليطاً لأهل الكتاب على الإنكار وتسليطاً لأتباعه على الرجوع عنه والتكذيب له بعد تصديقه ، وذلك ينقض الغرض المقصود بإخباره من كل وجه ، وهذا لا يصدر من عاقل ولا مجنون، فهذه الوجوه يعلم بها صدق ما أخبر به وإن لم يعلم وجوده من ير جهة إخباره ، فكيف وقد علم وجود ما أخبر به؟
الثامن : أنه لو قدر أ،هم لم يعلموا بشارة الأنبياء به وإخبارهم بنعته وصفته لم يلزم أن لا يكونوا ذكروه وأخبروا به وبشروا بنبوته إذ ليس كل ما قاله الأنبياء المتقدمون وصل إلى المتأخرين وأحاطوا به علما وهذا مما يعلم بالاضطرار ، فكم من قول قد قاله موسى وعيسى ولا علم لليهود والنصارى به ، فإذا أخبر به من قام الدليل القطعي على صدقه لم يكن جهلهم به موجباً لرده وتكذيبه.
التاسع : أنه يمكن أن يكون في نسخ غير هذه النسخ التي بأيديهم فأزيل من بعضها ونسخت هذه مما أزيل منه.
وقولهم إن نسخ التوراة متفقة في شرق الأرض وغربها كذب ظاهر ، فهذه التوراة التي بأيدي السامرة تخالف هذه وهذه ، وهذه نسخ الإنجيل يخالف بعضها بعضاً ويناقضه .
فدعواهم : أن نسخ التوارة والإنجيل متفقة شرقاً وغرباً من البهت والكذب الذي يروجونه على أشباه الأنعام ، وان هذه التوارة التي بأيدي اليهود فيها من الزيادة والتحريف والنقصان م لا يخفى لى الراسخين في العلم ، وهم يعلمون قطعاً أن ذلك ليس في التوارة التي أنزلها الله لعى موسى ، وأن هذه الأناجيل التي بأيدي النصارى فيها من الزيادة والتحريف والنقصان ما لا يخفى على الراسخين في العلم .
وهم يعلمون قطعا أن ذلك ليس في الإنجيلالذي أنزله الله عل المسيح ، وكيف يكون في التوارة قصة موت موسى ودفنه في أرض موآب ؟ وكيف يكون في الإنجيل الذي أنزل على المسيح قصة صلبه وما جرى له ، وأنه أصابه كذا وكذا ، وصلب يوم كذا وكذا ، وأنه قام من القبر بعد ثلاث ، وغير ذلك مما هو من كلام شيوخ النصارى ، وغايته أن يكون من كلام الحواريين خلطوه بالإنجيل وسموا الجميع إنجيلاً ، وكذلك كانت الأناجيل عندهم أربعة يخالف بعضها بعضاً.
ومن بهتهم وكذبهم قولهم : أن التوارة التي بأيديهم وأيدي اليهود والسامرة سواء والنصارى لا يقرون أن الإنجيل منزل من عند الله على المسيح وأنه كلام الله : بل كل فرقهم مجمعون على أنها أربعة تواريخ ألفها أربعة رجال معروفون في أزمان مختلفة ولا يعرفون عن الإنجيل غير هذا : إنجيل ألفه (متى) تلميذ المسيح بعد تسع سنين من رفع المسيح وكتب بالعبرانية في بلد يهود بالشام.
وإنجيل ألفه مرقس الهاروني تلميذ شمعون بعد ثلاث وعشرين سنة من رفع المسيح ، وكتبه باليونانية في بلاد أنطاكية من بلاد الروم ، ويقولون أن شمعون المذكور هو ألفه ثم محى اسمه من أوله ونسب لى تلميذه مرقس.
وإنجيل ألفه (يوحنا) تلميذ المسيح بع ما رفع المسيح ببضع وستين سنة ، كتبه باليونانية.
وكل واحد من هذه الأربعة يسمونه الإنجيل ، وبينها من التفاوت والزيادة والنقصان ما يعلمه الواقف عليها ، وبين توراة السامرة واليهود والنصارى من ذلك ما يعلمه من وقف عليها.
فدعوى الكاذب الباهت أن نسخ التوراة والإنجيل متفقة شراً وغرباً بعداً وقرباً من أعظم الفرية والكذب ، وقد ذكر غير واحد من علماء الإسلام ما بينها من التفاوت والزيادة والنقصان والتناقض لمن أراد الوقوف عليه ولولا الإطالة وقصد ما هو اهم منه لذكرنا منه طرفاً كبيراً.
وقد وبخهم الله سبحانه وبكتهم على لسان رسوله بالتحريف والكتمان والإخفاء ، فقال تعالى : يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟ وقال تعالى : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ، وقال تعالى : إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ، ولا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم ، وقال تعالى : يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم .
وأما التحريف : فقد أخبر سبحانه عنهم في مواضع متعددة ، وكذلك لي اللسان بالكتاب ليحسبه السامع منه وما هو منه .
فهذه خمسة أمور:
أحدها : لبس الحق بالباطل وهو خلطه به بحيث لا يتميز الحق من الباطل‍.
الثاني : كتمان الحق.
الثالث : إخفاؤه وهو قريب من كتمانه.
الرابع : تحريف الكلم عن مواضعه ، وهو نوعان : تحريف لفظه وتحريف معناه.
الخامس : لي اللسان به ليلبس على السامع اللفظ المنزل بغيره وهذه الأمور إنما ارتكبوها لأغراض لهم دعته إلى ذلك .
فإذا عادوا الرسول وجحدوا نبوته وكذبوه وقاتلوه فهم إلى أن يجحدوا نعته وصفته ويكتموا ذلك ويزيلوه عن مواضعه ويتأولوه على غير تأويله أقرب بكثير ، وهكذا فعلوا ، لكن لكثرة البشارات وتهوعها غلبوا عن كتمانها وإخفائها فصاروا إلى تحريف التأويل وإزالة معناها عمن لا تصلح لغيره ، وجعلها لمعدوم لم يخلقه الله ولا وجود له البتة.
العاشر : أنه استشهد على صحة نبوته بعلماء أهل الكتاب ، وقد شهد له عدولهم فلا يقدح جحد الكفرة الكاذبين المعاندين بعد ذلك ، قال تعالى : ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب .
وقال تعالى : قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين .
وقال تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب .
وقال تعالى : ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين .
وقال تعالى : الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون .
وإذا شهد واحد من هؤلاء لم يوزن به ملء الأرض من الكفرة ، ولا تعارض شهادته بجحود ملء الأرض من الكفار ، كيف والشاهد له من علماء أهل الكتاب أضعاف أضعاف المكذبين له منهم؟ وليس كل من قال من أشباه الحمير من عباد الصليب وأمة الغب : إنه من علمائهم فهو كذلك وإذا كان أكثر من يظن عوام المسلمين أنه من علمائهم ليس كذلك فما الظن بغيرهم؟ وعلماء أهل الكتاب إن لم يدخل فيهم من لم يعمل بعلمه فليس علماؤهم إلا من آمن به وصدقه، وإن دخل فيهم من علم ولم يعمل كعلماء السوء لم يكن إنكارهم لنبوته قادحاً في شهادة العلماء العاملين بعلمهم.
الحادي عشر : أنه لو قدر أنه لا ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنعته ولا صفته ولا علامته في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب اليوم لم يلزم من ذلك أن لا يكون مذكوراً في الكتب التي كانت بأيدي أسلافهم وقت متعثه ولا تكون اتصلت على وجهها إلى هؤلاء ، بل حرفها أوئك وبدلوا وكتموا ، وتواصوا وكتبوا ما أرادوا ، وقالوا هذا من عند الله ، ثم اشتهرت تلك الكتب وتناقلها خلفهم عن سلفهم ، فصارتالمغيرة المبدلة هي المشهورة والصحيحة بينهم خفية جداً ولا سبيل إلى العلم لاستحالة ذلك ، بل هو في غاية الإمكان ، فهؤلاء السامرة غيروا مواضع من التوراة ثم اشتهرت النسخ المغيرة عند جميعهم فلا يعرفون سواها وهجرت بينهم الصحيحة بالكلية ، وكذلك التوراة التي بأيدي النصارى ، وهكذا تبدل الأديان والكتب ولولا أن الله سبحانه تولى حفظ القرآن بنفسه وضمن للأمة أن لا تجتمع على ضلالة لأصابه ما أصاب الكتب قبله ، قال تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون .
الثاني عشر : أنه من الممتنع أن تخلو الكتب المتقدمة عن الإخبار بهذا الأمر العظيم الذي لم يطرق العالم من حين خلق إلى قيام الساعة أمر أعظم منه ولا شأن أكبر منه ، فإنه قلب العالم وطبق مشارق الأرض ومغاربها ، واستمر على العالم على تعاقب القرون وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ومثل هذا النبأ العظيم لا بد أن تتطابق الرسل على الإخبار به.
وإذا كان الدجال رجل كاذب يخرج في آخر الزمان وبقاؤه في الأرض أربعين يوماً قد تطابقت الرسل على الإخبار به وأنذر به كل نبي قومه من نوح إلى خاتم الرسل فكيف تتطابق الكتب الإلهية من أولها إلى آخرها على السكوت عن الإخبار بهذاالأمر العظيم الذي لم يطرق العالم أمر أعظم منه ولا يطرقه أبداً.
هذا ما لا يسوغه عقل عاقل وتأباه حكمة أحكم الحاكمين ، بل المر بضد ذلك ، وما بعث الله سبحانه نبيا إلا أخذ عليه الميثاق بالإيمان بمحمد وتصديقه ، كما قال تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ، قال ابن عباس : ما بعث الله من نبي إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به وليتابعنه.

فصل نص بعض النبوءات عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب السالفة
فهذه الوجوه على تقدير عدم العلم بوجود نعته وصفته الخبر عنه في الكتب المتقدمة ونحن نذكر بعض ما ورد فيها من البشارة به ونعته وصفته وصفة أمته ، وذلك يظهر من وجوه:

فصـل
نصوص من التوراة
(الوجه الأول) : قوه تعالى في التوارة سأقيم لبني أسرائيل نبياً من إخوتهم مثلك أجعل كلامي في فيه ويقول لهم ما آمره به والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه.
فهذا النص مما لا يمكن أحداً منهم جحده وإنكاره : ولكن لأهل الكتاب فيه أربعة طرق : أحدها حمله على المسيح وهذه طريقة النصارى ، وأما اليهود فلهم فيه ثلاثة طرق :
أحدها أنه على حذف أداة الاستفهام ، والتقدير أقيم لبني إسرائيل نبياً من إخوتهم أي لا أفعل هذا ، فهو استفهام إنكار حذفت منه أداة الاستفهام.

الثاني أنه خبر ووعد ولكن المراد به شمويل النبي فإنه من بني إسرائيل ، والبشارة إنما وقعت ببني من إخوتهم ، وإخوة القوم ثم بنو أبيهم ، وهم بنو إسرائيل.

الثالث أنه نبي يبعثه الله في آخر الزمان يقيم به ملك اليهود ويعلو به شأنهم وهم ينتظرونه إلى الآن.
وقال المسلمون : البشارة صريحة في النبي صلى الله عليه وسلم العربي الأمي محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه لا يحتمل غيره ، فإنها إنما وقعت ببني من إخوة بني إسرائيل لا من بني إسرائيل نفسهم ، والمسيح من بني إسرائيل ، فلو كان المراد بها هو المسيح لقال أقيم لهم نبياً من أنفسهم ، كما قال تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ، وأخوة بني إسرائيل هم بنو إسماعيل ، ولا يعقل في لغة أمة من الأمم أن بني إسرائيل هم إخوة بني إسرائيل ، كما ، إخوة زيد لا يدخل فيهم زيد نفسه.
وأيضا فإنه قال نبي مثلك وهذا يدل على أنه صاحب شريعة عامة مثل موسى ، وهذا يبطل حمله على شمويل من هذا الوجه أيضاً ، ويبطل حمله على يوشع من ثلاثة أوجه:
أحدها أنه من بني إسرائيل لا من إخوتهم ، الثاني أنه لم يكن مثل موسى ، وفي التوارة: لا يقوم في بني إسرائيل مثل موسى ، الثالث أن يوشعنبي في زمن موسى ، وهذا الوعد إنما هو ببني بقيمه الله بعد موسى.
وبهذه الوجوه الثلاثة يبطل حمله على هارون ، مع أن هارون توفى قبل موسى ، ونبأه الله مع موسى في حياته ، ويبطل ذلك من وجه رابع أيضاً وهو : أن في هذه البشارة أنه ينزل عليه كتاباً يظهر للناس من فيه وهذا لم يكن لأحد بعد موسى غير النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا من علامات نبوته التي أخبرت بها الأنبياء المتقدمون ، قال تعالى : وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين * وإنه لفي زبر الأولين * أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل .
فالقرآن نزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهر للأمة من فيه ، ولا يصح حمل هذه البشارة على قلب المسيح باتفاق النصارى لأنها إنما جاءت بواحد من إخوة بني إسرائيل ، وبنو إسرائيل وإخوتهم كلهم عبيد ليس فيهم إله ، والمسيح عندهم إله معبود ، وهو أجل عندهم من أن يكون من إخوة العبيد ، والبشارة وقعت بعبد مخلوق يقيمه الله من جملة عبيده وأخوتهم ، وغايته أن يكون نبياً لا غاية له فوقها وهذا ليس هو المسيح عند النصارى.
وأما قول المحرفين لكلام الله : إن ذلك على حذف ألف الاستفهام وهو استفهام إنكار والمعنى لا أقيم لبني إسرائيل نبياً .
فتلك عادة ل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elmastor99.ahlamontada.com
 
............كتاب بن القيم .....منقول ( 1 )
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» .......... كتاب .. هداية الحياري لإبن القيم .... ( 5 ) منقول
» ........تابع كتاب هداية الحياري لابن القيم ... ( 9 )
» القيم الغذائية للتمر (الرطب).. منقول
» كتاب الإعجاز القصصي
» زبدة الكلام في شرح كتاب الصيام من عمدة الأحكام

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتــديـــــــات .... ضياء الـديــــن البــري .... للثقـــــــافة والأدب :: الفئة الأولى :: المنتدى الأول-
انتقل الى: